رابعها : تشريعه في السنة الثانية للهجرة (1) .
   خامسها : أن جبرئيل أوَّل مَن أذَّن به في السماء (2) ، لكنَّ تشريعه في الأرض جاء بعد دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة .

(1) انظر : فتح الباري 2 : 62 .
(2) وسائل الشيعة 5 : 439 ح 7028 عن عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 238 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 27 ـ
بدء الأذان عند أهل السنّة
والجماعة

   هناك تقولات وأقوال مختلفة في بدء الأذان وكيفيّته ، مذكورة في الصحاح والسنن ، المشهور منها ـ الذي قد استقرّ عليه رأيهم ـ أنَّه قد شُرِّع في المدينة المنوّرة في السنة الأُولى من الهجرة المباركة ، على أثر منام رآه بعض الصحابة ، وإليك أهمّ تلك الأقوال :

الأوّل :
  تشريعه باقتراح من الصحابة ، وخصوصاً عمر بن الخطّاب :
  أخرج البخاريّ ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم ـ والنصّ للأوّل ـ عن عبدالله بن عمر ، أنّه قال : كان المسلمون حين قَدِموا المدينة يجتمعون ، فيتحيّنون الصلاة ، ليس يُنادى لها ، فتكلّموا يوماً في ذلك ، فقال بعضهم : اتَّخِذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم : بل بُوقاً مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أوَلا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة ؟ فقال رسول الله : يا بلال! قم فنادِ بالصلاة (1) .

(1) صحيح البخاري 1 : 306 كتاب الأذان باب بدء الأذان ح 570 ، صحيح مسلم1 : 285/1 ، سنن الترمذي 1 : 362 ـ 363 أبواب الصلاة باب ما جاء في بدء الأذان ح190 ، سنن النسائي 2 : 2 ـ 3 كتاب الأذان باب بدء الأذان ، مسند أحمد 2 : 148 ، مسند عبدالله بن عمر بن الخطّاب .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 28 ـ
  قال ابن خزيمة في صحيحه في باب ( ذكر الدليل على أنّ بدء الأذان إنّما كان بعد هجرة النبيّ إلى المدينة ، وأنّ صلاته بمكّة إنّما كانت من غير نداء لها ولا إقامة ) : ( قال أبو بكر ، في خبر عبدالله بن زيد : كان رسول الله حين قَدِمَ المدينة إنّما يجتمع الناس إليه للصلاة بحين مواقيتها بغير دعوة ) (1) .
   وهذا الرأي يشير إلى أن الأذان شُرّع بالمدينة وإن كانت الصلاة قد شُرّعت بمكّة :
   قال ابن المنذر : هو [ صلى الله عليه وآله وسلم ] كان يصلّي بغير أذان منذ فُرضت الصلاة بمكّة إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور (2) .
   لكن السيوطي في الدرّ المنثور ـ ضمن تفسير قوله تعالى : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا ) ـ روى عن عائشة أنّها قالت : ما أرى هذه الآية نزلت إلاّ في المؤذّنين (3) ، وهذه الآية مكّيّة (4) .
   ثمّ علّق الحلبي في سيرته على هذا بقوله : والأذان إنّما شُرّع في المدينة فهي ممّا تأخّر حكمه عن نزوله (5) .
   وقد سئل الحافظ السيوطي : هل ورد أن بلالاً أو غيره أذّن بمكّة قبل الهجرة ؟ فأجاب بقوله : ورد ذلك بأسانيد ضعيفة لا يُعتمد عليها ، والمشهور

(1) صحيح ابن خزيمة 1 : 190 كتاب الصلاة باب الأذان والإقامة ح 365 .
(2) السيرة الحلبية 2 : 296 .
(3) الدرّ المنثور 5 : 364 ، المصنّف لابن أبي شيبة 1 : 204 ، باب في فضل الأذان وثوابه ح 2347 .
(4) انظر : تفسير القرطبي 15 : 360 ، وتفسير الثعالبي 5 : 139 .
(5) السيرة الحلبية 2 : 297 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 29 ـ
  الذي صحّحه أكثر العلماء ودلّت عليه الأحاديث الصحيحة أن الأذان شُرّع بعد الهجرة وأنّه لم يؤذِّن قبلها لا بلال ولا غيرُه (1) .
   هذا ، وإن النووي بعد أن أتى بخبر ابن عمر الدالّ على مشاورة الرسول للصحابة ، تساءل عن هذه المشاورة هل هي واجبة على رسول الله أم لا ؟! فقال : ( ... واختلف أصحابنا ، هل كانت المشاورة واجبة على رسول الله أم كانت سُنّة من حقّه كما في حقّنا ؟ والصحيح عندهم وجوبها ، وهو المختار .
   قال الله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ...) (2) ، والمختار الذي عليه جمهور الفقهاء ومحقّقو أهل الأُصول أنَّ الأمر للوجوب ، وفيه أنّه ينبغي للمتشاورين أن يقول كلٌّ منهم ما عنده ، ثمّ صاحبُ الأمر يفعل ما ظهرت له مصلحة ، والله أعلم (3) .

الثاني :
   جاء تشريع الأذان بعد منامات رآها بعض الصحابة :
  أخرج أبو داود بإسناده عن أبي عمير بن أنس ، عن عُمومةٍ له مِن الأنصار ، قال : ( اهتمّ النبيّ للصلاة كيف يجمع الناس لها ؛ فقيل : انصِبْ رايةً عند حضور الصلاة ، فإذا رأوها آذَنَ بعضُهم بعضاً ، فلم يعجبه ذلك ، فذُكِر له القَنْع ـ يعني الشبّور ، وقال زياد : شبّور اليهود ـ فلم يعجبه ذلك ، وقال : هو مِن أمرِ اليهود .
   قال : فذُكِر له الناقوس ، فقال : هو مِن أمرِ النصارى .

(1) السيرة الحلبية 2 : 296 .
(2) آل عمران : 159 .
(3) شرح النوويّ على مسلم 3 ـ 4 : 318 كتاب الصلاة باب بدء الأذان .


الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 30 ـ
   فانصرف عبدالله بن زيد وهو مهتمٌّ لهمِّ رسول الله ، فأُرِيَ الأذانَ في منامه ، فغدا على رسول الله فأخبره ، فقال : يا رسول الله! إنّي لَبينَ نائمٍ ويقظان إذ أتاني آتٍ فأراني الأذان .
   قال : وكان عمر بن الخطّاب قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً ، قال : ثمّ أخبر النبيّ ، فقال له : ما منعك أن تخبرني ؟ فقال : سبقني عبدالله بن زيد فاستحييت .
   فقال رسول الله : يا بلال! قم فانظر ما يأمرك به عبدالله بن زيد فافعله ، قال : فأذَّنَ بلال .
   قال أبو بشر [ وهو من رواة الخبر ] : فأخبرني أبو عمير أنّ الأنصار تزعم أنَّ عبدالله بن زيد لولا أنّه كان يومئذٍ مريضاً لجعله رسول الله مؤذِّناً (1) .
  وأخرج الترمذيّ ، وأبو داود ، عن عبدالله بن زيد أنّه قال ـ والنصّ للثاني ـ : لمَّا أمر رسول الله بالناقوس يُعمَل ليضرب به للناس لجمع الصلاة ، طاف بي ـ وأنا نائم ـ رجل يحمل ناقوساً في يده ، فقلت : يا عبدالله! أتبيع الناقوس ؟
   قال : وما تصنع به ؟
   قلتُ : ندعو به إلى الصلاة .
   قال : أفلا أدلّك على ما هو خير من ذلك ؟
   فقلتُ : بلى .
   فقال : تقول : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر
   أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، أشهد أن لا إله إلاَّ الله .
   أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله .

(1) سنن أبي داود 1 : 134 كتاب الصلاة باب بدء الأذان .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 31 ـ
   حيّ على الصلاة ، حي على الصلاة .
   حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح .
   الله أكبر ، الله أكبر .
   لا إله إلاَّ الله .
   قال : ثمّ استأخر عنّي غير بَعيدٍ ، ثمّ قال : وتقول إذا أقمت الصلاة :
   الله أكبر ، الله أكبر .
   أشهد أن لا إله إلاَّ الله .
   أشهد أنّ محمّداً رسول الله .
   حيّ على الصلاة .
   حيّ على الفلاح .
   قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة .
   الله أكبر ، الله أكبر .
   لا إله إلاَّ الله .
   فلمّا أصبحتُ أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت ، فقال : إنَّها لَرُؤيا حقّ إن شاء الله تعالى ، فقُم مع بلال فألقِ عليه ما رأيت فَلْيُؤذِّن به ، فإنّه أندى صوتاً منك ، فقمتُ مع بلال فجعلتُ أُلقيه عليه ويُؤذِّن به .
   قال : فسمع ذلك عمر بن الخطّاب وهو في بيته ، فخرج يجرُّ رداءه ، ويقول : والذي بعثك بالحقِّ يا رسول الله ! لقد رأيتُ مثل ما رأى ، فقال رسول الله : فللَّه الحمد (1) .

(1) الجامع الصحيح للترمذي 1 : 358 أبواب الصلاة ، باب : ( ما جاء في بدء الأذان ) ،سنن ابي داود 1 : 135 كتاب الصلاة ، باب ( كيف الأذان ) وفيه قال أبو داود : هكذا رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبدالله بن زيد ، وقال فيه ابن إسحاق عن الزهري : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، وقال معمر ويونس عن الزهري فيه : الله أكبر ، الله أكبر لم يثنيّا ، وانظر : : صحيح ابن خزيمة 1 : 193 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 32 ـ
  وأخرج أبو داود عن ابن أبي ليلى ، قال : أُحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، قال : وحدّثنا أصحابنا أنّ رسول الله قال : لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين ـ أو قال : المؤمنين ـ واحدة حتّى لقد هَمَمتُ أن أبثّ رجالاً في الدُّور ينادون الناس بحين الصلاة ، وحتّى هَمَمت أن آمر رجالاً يقومون على الآطام ينادون المسلمين بحين الصلاة حتّى نَقَسُوا أو كادوا [ أن ] ينقسوا .
   قال : فجاء رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله! إنّي لمّا رجعتُ ـ لِما رأيتُ من اهتمامك ـ رأيتُ رجلاً كأنَّ عليه ثوبَين أخضرَين ، فقام على المسجد فأذَّن ثمّ قعد قعدة ، ثمّ قام فقال مثلها إلاَّ أنّه يقول : قد قامت الصلاة ، ولولا أن يقول الناس ـ قال ابن المثنّى : أن تقولوا ـ لقلتُ إنّي كنتُ يقظاناً غير نائم .
   فقال رسول الله : لقد أراك الله عزّ وجلّ خيراً ـ كما في رواية ابن المثنّى ، ولم تأتِ هذه العبارة في رواية عمرو ـ فَمُرْ بلالاً فليؤذِّن .
   قال : فقال عمر : أما إنّي فقد رأيتُ مثل الذي رأى ، ولكنّي لمّا سُبِقتُ استَحيَيت (1) .
   * وأخرج مالك في الموطّأ : حدّثني يحيى ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد أنّه قال : كان رسول الله ( صلى الله علية واله وسلم ) قد أراد أن يتّخذ خشبتَين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة ، فأُرِيَ عبدالله بن زيد الأنصاريّ ثمّ من بني الحارث بن الخزرج خشبتَينِ في النوم ، فقال : إنَّ هاتين لَنحو ما يريد رسول الله ، فقيل : أفلا تُؤَذِّنون للصلاة ؟ فأتى رسول الله ، حين استيقظ ، فذكر له ذلك ، فامر رسولُ الله

(1) سنن أبي داود 1 : 139 كتاب الصلاة باب بدء الأذان ح 506 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 33 ـ
  بالأذان (1) .
  * وفي مصنّف عبدالرزّاق بإسناده عن إبراهيم بن محمّد ، عن أبي جابر البياضيّ ، عن سعيد ، عن عبدالله بن زيد ـ أخي بني الحارث بن الخزرج ـ أنّه : بينما هو نائم إذ رأى رجلاً معه خشبتان ، قال : فقلتُ له في المنام : إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يشتري هذين العُودَينِ يجعلهما ناقوساً يضرب به للصلاة .
  قال : فالتفتَ إلَيَّ صاحبُ العودينِ برأسه فقال : أنا أدلّكم على ما هو خير من هذا ( فبلَّغه رسول الله صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلم ، فأمره بالتأذين ) (2) .
   فاستيقظ عبدالله بن زيد ؛ قال : ورأى عمر مثل رؤيا عبدالله بن زيد ، فسبقه عبدالله بن زيد إلى النبيّ ، فأخبره بذلك ، فقال له النبيّ : قم فأذِّن ، فقال : يارسول الله! إنّي فضيع الصوت ، فقال له : فعلِّمْ بلالاً ما رأيتَ ، فعلَّمه فكان بلال يُؤَذِّن (3) .
  وأخرج عبدالرزّاق أيضاً في مصنّفه عن ابن جريج : ( قال عطاء : سمعتُ عبيد بن عمير يقول : ائتمر النبيّ وأصحابه كيف يجعلون شيئاً إذا أرادوا جمع الصلاة اجتمعوا لها ، فائتمروا بالناقوس ، قال : فبينا عمر بن الخطّاب يريد أن يشتري خشبتينِ للناقوس إذ رأى في المنام : أن لا تجعلوا الناقوس بل أذِّنوا بالصلاة ، قال : فذهب عمر إلى النبيّ ليخبره بالذي رأى ، وقد جاء النبيّ الوحي بذلك ، فما راع عمر إلاّ بلال يؤذِّن ، فقال النبيّ : قد سبقك بذلك الوحي ، حين

(1) الموطّأ 1 : 67 كتاب الصلاة ، باب ( ما جاء في النداء للصلاة ) .
(2) ما بين القوسين ساقط من كنز العمّال .
(3) مصنّف عبدالززّاق 1 : 460/1787 كتاب الصلاة باب بدء الأذان كذلك كنز العمال 8 : 329 كتاب الصلاة الباب الخامس ح 23140 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 34 ـ
  أخبره بذلك عمر ) (1) .
  وفي جامع المسانيد لأبي حنيفة ومجمع الزوائد ـ والنصّ للأوّل ـ : ( عن علقمة بن مرثد ، عن ابن بريدة ، عن أبيه ، أنَّ رجلاً من الأنصار مرَّ برسول الله فرآه حزيناً ، وكان الرجل ذا طعام يُجتمَع إليه ، فانطلق حزيناً لِما رأى من حزن رسول الله ، وترك طعامه وما كان يجتمع إليه ، ودخل مسجده يصلِّي ، فبينما هو كذلك إذ نعس فأتاه آتٍ في النوم ، فقال : هل علمت ما حَزَّن رسولَ الله ؟
  فقال : لا .
  قال : فهو لهذا الناقوس ، فائْتِهِ فمُرْه أن يأمر بلالاً أن يؤذِّن ، فعلَّمه الأذان : اللهُ أكبر اللهُ أكبر مرّتين ، أشهد أن لا إله إلاّ الله مرّتين ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله مرّتين ، حيّ على الصلاة مرّتين ، حيّ على الفلاح مرّتين ، اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ، لا إله إلاّ الله ..
  ثمّ عَلّمه الإقامة مثل ذلك ، وقال في آخره : قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ، لا إله إلاّ اللهُ ، كأذان الناس وإقامتهم .
  فأقبل الأنصاريّ فقعد على باب رسول الله ، فمرّ أبو بكر فقال : استأذن لي ، فدخل أبو بكر وقد رأى مثل ذلك ، فأخبر به النبيَّ ، ثمَّ استأذن للأنصاريّ فدخل وأخبر بالذي رأى ، فقال النبيُّ : قد أخبرنا أبو بكر بمثل ذلك ، فأمر بلالاً يؤذِّن بذلك (2) .
   فهذه النصوص النصوص : وإن كانت مختلفة العبارات لكنّها تشير إلى رؤية متقاربة ،

(1) مصنّف عبدالرزّاق 1 : 456/1775 كتاب الصلاة باب بدء الأذان .
هذه الرواية وان كانت ترتبط بالأذان عن طريق الوحي لكنا أتينا بها هنا لارتباطها بروايات المنامات .
(2) جامع المسانيد 1 : 299 ، مجمع الزوائد 1 : 329 كتاب الصلاة باب كيف الأذان .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 35 ـ
  فالنصّ الأوّل يشير إلى أن تشريع الأذان جاء على أثر رؤيا رآها عبدالله بن زيد حينما رأى رسول الله مهموماً مغموماً ، ويظهر أنّ رؤياه كانت ليلاً لقوله : ( ... فأُرِيَ الأذان في منامه ، فغدا على رسول الله فأخبره ) وكذا النصّ الثاني ، ففيه ( فلمّا أصبحتُ أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت ) .
   لكن النصّ الذي رواه أبو حنيفة في جامع المسانيد فيه : أنّ الرجل لمّا رأى حزن رسول الله دخل المسجد يصلّي ( فبينما هو كذلك إذ نعس فأتاه آتٍ في النوم ... فأقبل الأنصاري فقعد على باب رسول الله فمرّ أبو بكر فقال : استأذن لي ... ) وهو يختلف عن الأوّل .
   ويضاف إليه أن الرجل الأنصاري في نصّ جامع المسانيد كان ( ذا طعام يُجتَمع إليه ، فانطلق حزيناً لِما رأى من حزن رسول الله ، وترك طعامه وما كان يجتمع إليه ) وهذا لم يشتهر عن عبدالله بن زيد بن عبدربّه بن ثعلبة الذي أُري النداء لعلّه أبي بن كعب الآتي ذكره .
   نعم ، اشتهر عن سعد بن عبادة وغيره من الأنصار الذين استضافوا رسول الله عند دخوله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ، وكانوا من الأغنياء المعروفين بالجود والكرم مع أنّ نص جامع المسانيد يدّعي أنّ أبا بكر سبق الأنصاري بالرؤيا وإخباره للنبي ( صلى الله علية واله وسلم ) بذلك ، وهو يخالف باقي النصوص التي سَجّل قدمَ السبق للأنصاري .
   أما النصّ الثاني ـ أي ما أخرجه الترمذي وأبو داود ـ فيشير إلى أن رسول الله أمر بالناقوس يُعمل ليضرب للناس ، فرأى عبدالله في المنام الأذان ، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً أن يأخذ بما قاله عبدالله ؛ وهذا لا يتّفق مع عدم ارتضائه صلى الله عليه وآله وسلم للناقوس!!    وفي النصّ الثالث نراه صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( لقد هَمَمتُ أن أبثّ رجالاً في الدُّور ينادون الناس بحين الصلاة حتّى هَمَمت أن آمر رجالاً يقومون على الآطام ينادون بحين الصاة ، حتّى نقسوا أو كادوا [ أنج ينقسوا ، فجاء رجل من الأنصار ... ) ، وهذا لا يتّفق مع ما قيل عن الرجل الأنصاري في كتب

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 36 ـ
  الحديث .
   وفي موطّأ مالك : ( كان رسول الله قد أراد ان يتّخذ خشبتين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة ، فأُري عبدالله خشبتين في المنام ... ) .
   وهذا أيضاً لا يتّفق مع ما رواه عبدالرزّاق عن ابن جريج ، إذ فيه : أنّ عمر أراد ( أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى في المنام : أن لا تجعلوا الناقوس بل أذّنوا للصلاة ) .
   هذه بعض النصوص الدالّة على القول الثاني ، وقد حاولنا أن نوحدها ـ رغم اختلافاتها ـ بقدر المستطاع تحت عنوان واحد .

الثالث :
   نزول الأذان تدريجياً ، وإضافة عمر الشهادة بالنبوّة إليه :    جاء في صحيح ابن خزيمة : حدّثنا بُندار ، حدّثنا أبو بكر ـ يعني الحنفيّ ـ حدّثنا عبدالله بن نافع عن أبيه ، عن ابن عمر : أنَّ بلالاً كان يقول أوَّل ما أذَّن : أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، حيّ على الصلاة ؛ فقال له عمر : قل في إثرها : أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ؛ فقال رسول الله : قل كما أمرك عمر (1) .

الرابع :
   الأذان وحيٌ من الله تلقّاه الرسول من جبرئيل :
   جاء في نصب الراية للزيلعي تحت باب ( أحاديث في أنَّ الأذان كان وحياً

(1) صحيح ابن خزيمة 1 : 189 ، كتاب الصلاة باب في بدء الأذان والإقامة ح 362 ، وانظر : السيرة الحلبية 2 : 303 ، كنز العمّال 8 : 334 كتاب الصلاة الباب الخامس ح 23150 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 37 ـ
  لا مناماً ) : روى البزّار في مسنده : حدّثنا محمّد بن عثمان بن مخلّد الواسطيّ ، حدّثنا أبي ، حدّثنا زياد بن المنذر ، عن محمّد بن عليّ بن الحسين ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال :
  ( لمّا أراد الله أن يُعَلِّم رسوله الأذانَ أتاه جبرئيل بدابّة يقال لها البُراق ، فذهب يركبها فاستصعبت ، فقال لها [ جبرئيل ] : اسكُني ، فوالله ما رَكِبَك عبدٌ أكرم على الله من محمّد .
  قال : فركبها حتّى انتهى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن تبارك وتعالى ، فبينما هو كذلك إذ خرج مَلَكٌ مِن الحجاب ، فقال رسول الله : يا جبرئيل! مَن هذا ؟
   قال : والذي بعثك بالحقِّ ، إنّي لأَقرب الخَلْق مكاناً ، وإنَّ هذا المَلَك ما رأيته منذ خُلِقتُ قبل ساعتي هذه .
   فقال المَلَك : الله أكبر ، الله أكبر .
   قال : فقيل له مِن وراء الحجاب : صَدَقَ عبدي ، أنا أكبر ، أنا أكبر .
   ثمّ قال المَلَك : أشهد أن لا إله إلاَّ الله .
   قال : فقيل له مِن وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا لا إله إلاَّ أنا .
   ثمّ قال المَلَك : أشهد أنَّ محمّداً رسول الله .
   فقيل له مِن وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أرسلتُ محمّداً .
   ثمّ قال المَلَك : حيَّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح [ وفي مجمع الزوائد زيادة : قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ] ، ثمَّ قال الملك : الله أكبر ، الله أكبر .
   فقيل له مِن وراء الحجاب : صَدَق عبدي ، أنا أكبر ، أنا أكبر .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 38 ـ
  ثمّ قال : لا إله إلاَّ الله .
   قال : فقيل مِن وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا لا إله إلاَّ أنا .
   قال : ثمّ أخذ المَلَك بيد محمّد فقدَّمه فأمَّ أهل السماء ، فيهم آدم ونوح .. انتهى .
  [ وفي مجمع الزوائد زيادة : قال أبو جعفر محمّد بن عليّ : فيومئذٍ أكمل الله لمحمّد الشرف على أهل السماوات والأرض ] (1) .
   وروى الطبرانيّ في الأوسط عن ابن عمر : ( أنَّ النبيّ لمّا أُسرِيَ به إلى السماء أُوحي إليه بالأذان ، فنزل به فعلَّمه جبرئيلَ ) (2) .
   وروى ابن مردويه عن عائشة مرفوعاً : لمّا أسري بي أذّن جبرئيل فظنّت الملائكة أنّه [ أي جبرئيل ] يصلّي بهم ، فقدّمني فصلّيت (3) .

الخامس :
   إنّ عمر أوّل من سمع أذان جبرئيل ثمّ بلال :
   جاء في مختصر إتحاف السادة المهرة بزوائد العشرة للبوصيري : عن كثير ابن مرة الحضرميّ ، أنَّ رسول الله قال : أوّل مَن أذَّن في السماء جبرئيل عليه السلام ، قال : فسمعه عمر وبلال ، فأقبل عمر فأخبر النبيَّ بما سمع ، ثمّ أقبل بلال فأخبر النبيَّ بما سمع ، فقال له رسول الله : سبقك عمر يا بلال ، أذِّن كما سمعت ، قال : ثمَّ أمره رسول الله أن يضع إصبعَيه في أُذنَيه استعانةً بهما على الصوت ، رواه الحارث بن أُسامة مرسلاً بسند ضعيف لضعف سعيد

(1) نصب الراية 1 : 260 ، مجمع الزوائد 1 : 328 كتاب الصلاة باب بدء الأذان .
(2) الأوسط للطبرانيّ 10 : 114 ح 9243 ، مجمع الزوائد 1 : 329 كتاب الصلاة باب بدء الأذان وفيه : ( رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه طلحة بن زيد ونسب إلى الوضع ) .
(3) السيرة الحلبية 2 : 296 وفيه : قال الذهبي : حديث منكر بل موضوع .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 39 ـ
  ابن سنان (1) .

السادس :
   إنّ الأذان نزل به جبرئيل على آدم لمّا استوحش :
   جاء في كشف الغُمَّة للشعراني : ... وكان كعب الأحبار يقول : قال رسول الله : لمَّا نزل آدم بأرض الهند استوحش فنزل جبرئيل فنادى بالأذان ، فزالت عنه الوحشة .
   فقال جبرئيل : الله أكبر اللهُ أكبر ، أشهد أن لا إله إلاَّ الله ـ مرّتين ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ـ مرّتين .
   قال آدم : مَن محمّد ؟
   قال : آخِر ولدك مِن الأنبياء (2) .
   قال عليّ بن برهان الدين الحلبي في سيرته : أقول : ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو نعيم في الحلية بسند فيه مجاهيل أنّ جبرئيل نادى بالأذان لآدم حين أُهبط من الجنَّة (3) .
   ثمّ قال الحلبي :

(1) إتحاف السادة المهرة 1 ـ 2 : 317 كتاب الأذان باب بدء الأذان وصفته ح 983 ، السيرة الحلبية 2 : 302 وفيه : ( وروي بسندٍ واهٍ أن أوّل من أذن بالصلاة جبرئيل في سماء الدنيا ، فسمعه عمر وبلال رضي الله عنهما فسبق عمر بلالاً فاخبر النبي ثمّ ... ) .
(2) كشف الغمّة 1 : 96 كتاب الصلاة باب الأذان وفضله .
وانظر : قريباً منه في حلية الأولياء 5 : 107 ترجمة عمرو بن قيس الملائي عن أبي هريرة .
(3) السيرة الحلبية 2 : 297 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 40 ـ
   وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى ( خُصّ صلى الله عليه وآله وسلم بذكر اسمه في الأذان في عهد آدم وفي الملكوت الأعلى ) والله أعلم (1) .
   هذا ما قاله أهل السنّة والجماعة في بَدء الأذان ، ولكنْ .. ما هي رؤية أهل البيت عليهم السلام في قضيّة بدء تشريع الأذان ؟ هذا ما سنتعرّف عليه في الصفحات التالية .

(1) السيرة الحلبية 2 : 302 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 41 ـ
أهل البيت وبدء الأذان

   اتّفقت نصوص أهل بيت النبوّة ـ المرويّ منها عن طريق الإماميّة الاثني عشريّة أو الإسماعيليّة أو الزيديّة ـ على أنّ بدء الأذان قد كان في الإسراء ، وإليك بعض نصوصهم في هذا السياق .
   الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام ( ت 40 هـ ) :
   جاء في صحيفة الرضا عليه السلام ، عن آبائه ، قال : ( قال عليّ بن أبي طالب : لمّا بُدِي رسول الله بتعليم الأذان ، أتى جبرئيل بالبُراق فاستعصت عليه ، فقال لها جبرئيل : اسكُني برقة! فما ركبك أحد أكرم على الله منه ، فسكنت ، قال رسول الله : فركبتها حتّى انتهيت إلى الحجاب الذي يلي الرحمن عَزَّ [ ربُّنا ] وجَلَّ ، فخرج مَلَكٌ مِن وراء الحجاب ، فقال : اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : قلت : يا جبرئيل! مَن هذا المَلَك ؟
   قال [جبرئيل] : والذي أكرمك بالنبوّة ما رأيتُ هذا الملَك قبل ساعتي هذه .
   فقال المَلَك : اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ؛ فنودي مِن وراء الحجاب : صَدَق عبدي ، أنا أكبر ، أنا أكبر .
   قال صلى الله عليه وآله وسلم : فقال المَلَك : أشهد أن لا إله إلاَّ اللهَ ، أشهد أن لا إله إلاَّ الله ؛ فنُودِي مِن وراء الحجاب : صدق عبدي ، [ أنا الله ] ، لا إله إلاَّ أنا .
   فقال صلى الله عليه وآله وسلم : فقال المَلَك : أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ؛ فنودي من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أرسلتُ محمّداً رسولاً .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 42 ـ
   قال صلى الله عليه وآله وسلم : فقال المَلَك : حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ؛ فنودي من وراء الحجاب : صدق عبدي ، ودعا إلى عبادتي .
   قال صلى الله عليه وآله وسلم : فقال المَلَك : حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، فنودي من وراء الحجاب : صدق عبدي ، ودعا إلى عبادتي ، فقال الملك : قد أفلحَ مَن واظب عليها .
   قال صلى الله عليه وآله وسلم : فيومئذٍ أكمل الله عزّ وجلّ لي الشرف على الأوّلين والآخرين ) (1) .
   الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام ( ت 50 هـ ) :
   عن سفيان بن الليل ، قال : لمّا كان من أمر الحسن بن عليّ ومعاوية ما كان قَدِمتُ عليه المدينةَ وهو جالس في أصحابه ، فذكر الحديث بطوله ، فقال : فتذاكرنا عنده الأذان ، فقال بعضنا : إنّما كان بدء الأذان برؤيا عبدالله بن زيد .
   فقال له الحسن بن عليّ : ( إنّ شأن الأذان أعظم من ذلك ، أذّنَ جبرئيل في السماء مَثْنى مَثْنى وعلَّمه رسولَ الله ، وأقام مرّة مرّة فعلَّمه رسولَ الله ) ، فأذَّن به الحسن حتّى ولّى (2) .
   الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام ( ت 61 هـ ) :
   جاء في الجعفريّات : أخبرنا محمّد ، حدّثني موسى ، قال : حدّثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه عليّ بن الحسين ، عن

(1) صحيفة الرضا صلى الله عليه وآله وسلم 65 ـ 66 ح 115 ، وعنه في بحار الأنوار 81 : 151 ، وقد مرّ عليك قبل قليل في صفحة 37 ما أخرجه البزّار ( انظر : نصب الراية 1 : 260 ) .
(2) نصب الراية 1 : 261 ، عن المستدرك للحاكم 3 : 171 كتاب معرفة الصحابة ، باختلاف يسير .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 43 ـ
  الحسين بن عليّ عليهم السلام أنَّه سئل عن الأذان وما يقول الناس ، قال : ( الوحيُ ينزل على نبيّكم ، وتزعمون أنَّه أخذ الأذان عن عبدالله بن زيد ؟ بل سمعتُ أبي عليّ ابن أبي طالب عليه السلام يقول : أَهـبَطَ اللهُ عزَّ وجلَّ مَلَكاً حين عُرِج برسول الله فأذَّن مَثْنى مَثْنى ، وأقام مَثْنى مَثْنى ، ثمّ قال له جبرئـيل : يا محمّد! هكذا أذان الصلاة ) (1) .
   وفي دعائم الإسلام ـ وهو من كتب الإسماعيليّة ـ : روينا عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الحسين بن عليّ عليهم السلام أنّه سئل عن قول الناس في الأذان ، إنَّ السبب كان فيه رؤيا رآها عبدالله بن زيد فأخبر بها النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فأمر بالأذان !
   فقال الحسين عليه السلام : ( الوحيُ يتنزَّل على نبيّكم ، وتزعمون أنَّه أخذ الأذان عن عبدالله بن زيد ؟ والأذان وجه دينكم ! ) ، وغضب عليه السلام ثمّ قال : ( بل سمعتُ أبي عليّ بن أبي طالب يقول : أهبَطَ اللهُ عزّ وجلّ مَلَكاً حين عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ وذكر حديث الإسراء بطوله ، اختصرناه نحن ها هنا ـ قال فيه : ( وبعث ملكاً لم يُرَ في السماء قبل ذلك الوقت ولا بعده ، فأذَّن مَثْنى وأقام مَثْنى ) ، وذكر كيفيّة الأذان ( وقال جبرئيل للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : يا محمّد! هكذا أذِّن للصلاة ) (2) .
   محمّد بن علي بن أبي طالب ( ابن الحنفيّة ت 73 ـ 93 هـ ) :
   عن أبي العلاء ، قال : قلت لمحمّد بن الحنفيّة : إنّا لَنتحدّث : أنّ بدء هذا الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه .
   قال : ففزع لذلك محمّد بن الحنفيّة فزعاً شديداً ، وقال : عَمَدتُم إلى ما هو

(1) الجعفريّات : 42 ، مستدرك الوسائل 4 : 17 .
(2) دعائم الإسلام 1 : 142 ذكر الأذان والإقامة .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 44 ـ
  الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنّه إنّما كان رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه تحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام !
   قال : فقلتُ ( له ) : هذا الحديث قد استفاض في الناس!
   قال : ( هذا والله هو الباطل ) ، ثمّ قال : ( وإنّما أخبرني أبي : أنَّ جبرئيل عليه السلام أذَّن في بيت المقدس ليلة الإسراء وأقام ، ثمّ أعاد جبرئيل الأذان لمّا عرج بالنبيّ إلى السماء ... ) (1) .
   وفي معاني الأخبار : عن عليّ بن عبدالله الورّاق ، وعليّ بن محمّد بن الحسن القزويني ، قالا : حدّثنا سعد بن عبدالله ، قال : حدّثنا العبّاس بن سعيد الأزرق ، قال : حدّثنا أبو نصر ، عن عيسى بن مهران ، عن يحيى بن الحسن بن الفرات ، عن حمّاد بن يعلى ، عن عليّ بن الحزور ، عن الأصبغ بن نُباتة ، عن محمّد بن الحنفيّة أنَّه ذُكِرَ عنده الأذان فقال :
   ( لمّا أُسري بالنبيِّ إلى السماء ، وتناهز إلى السماء السادسة ، نزل مَلَكٌ من السماء السابعة لم ينزل قبل ذلك اليوم قطّ ، فقال : اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ؛ فقال الله جَلَّ جلاله : أنا كذلك .
   فقال : أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، فقال الله عزّ وجلّ : أنا كذلك ، لا إله إلاَّ أنا .
   فقال : أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، فقال الله جلَّ جلاله : عبدي وأميني على خلقي ، اصطفيته على عبادي برسالاتي .
   ثمّ قال : حيّ على الصلاة ، فقال الله جلَّ جلاله : فرضتها على عبادي وجعلتها لي دِيناً .
   ثمّ قال : حيّ على الفلاح ، فقال الله جلَّ جلاله : أفلح مَن مشى إليها وواظب

(1) السيرة الحلبيّة 2 : 300 ـ 301 ، أمالي أحمد بن عيسى بن زيد 1 : 90 ، وعنه في الاعتصام بحبل الله 1 : 277 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 45 ـ
  عليها ابتغاء وجهي .
   ثمّ قال : حيّ على خير العمل ، فقال اللهُ جلَّ جلاله : هي أفضل الأعمال وأزكاها عندي .
   ثمّ قال : قد قامت الصلاة ، فتقدَّم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فأمَّ أهلَ السماء ، فَمِن يومئذٍ تمَّ شرف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ) (1) .
   وقد جاء ما يماثل هذا في طرق الزيدية ، وأخرجه الحافظ العلوي في ( الأذان بحيّ على خير العمل ) ، فقال :
   حدّثنا أبو القاسم الحفص بن محمّد بن أبي عابد قراءةً ، حدّثنا زيد بن محمّد بن جعفر العامري ، حدّثنا جعفر بن محمّد بن مروان ، حدّثنا أبي ، حدّثنا نصر بن مزاحم المنقري ، حدّثنا أيّوب بن سليمان الفزاري ، عن عليّ بن جردل ، عن محمّد بن بشر ، قال : جاء رجل إلى محمّد بن الحنفية فقال له : بلغنا أن الأذان إنّما هو رؤيا رآها رجل من الأنصار فقصّها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأمر بلالاً فأذّن تلك الرؤيا !
   فقال له محمّد بن الحنفية : إنّما يقول بهذا الجاهلُ من الناس ، إن أمر الأذان أعظم من ذلك .. إنّه لمّا أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانتُهي به إلى السماء السادسة جمع اللهُ له ما شاء من الرسل والملائكة ، فنزل مَلَك لم ينزل قبل ذلك اليوم ، عرفت الملائكة أنّه لم ينزل إلاّ لأمر عظيم ، فكان أوّل ما تكلّم به حين نزل ، قال : الله أكبر ، الله أكبر ، فقال الله عزّ وجلّ : أنا كذلك ، أنا الأكبر لا شيء أكبر مّني ، ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، فقال الله : أنا كذلك لا إله إِلاّ أنا ، ثمّ قال : أشهد أن محمّداً رسول الله ، فقال الله : نعم ، هو رسولي بعثته برسالتي وأئتمنته على وحيي ، ثمّ قال : حيّ على الصلاة ، فقال الله : أنا افترضتها على عبادي وجعلتها لي رضا ، ثمّ

(1) معاني الأخبار ، للصدوق : 42 ح 4 ، وعنه في بحار الأنوار 81 : 141 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 46 ـ
  قال : حيّ على الفلاح ، فقال الله : قد أفلح من مشى إليها وواظب عليها ابتغاء وجهي .
   ثمّ قال : حيّ على خير العمل ، فقال الله : هي أزكى الأعمال عندي وأحبها إليَّ .
   ثمّ قال : قد قامت الصلاة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن كان عنده من الرسل والملائكة ، وكان المَلَك يؤذّن مَثْنى مَثْنى ، وآخِر أذانه وإقامته : لا إله إلاّ الله ، وهو الذي ذكر الله في كتابه : ( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، قال محمّد بن الحنفية : فتَمّ له يومئذٍ شرفُه على الخلق ، ثمّ نزل فأمر أن يؤذَّن بذلك الأذان (1) .
   الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام ( ت 94هـ ) :    عن زيد بن عليّ ، عن آبائه ، عن عليّ : ( أنَّ رسول الله عُلِّمَ الأذان ليلة المسرى ، وبه فُرِضَت عليه ) (2) .
   وقال الإمام الهادي بالله ـ من أئمّة الزيديّة ـ في كتابه الأحكام : ( قال يحيى ابن الحسين رضي الله عنه : والأذان فأصلُه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عُلِّمَه ليلةَ المسرى ، أرسل اللهُ إليه مَلَكاً فعلَّمه إيّاه .
   فأمّا ما يقول به الجهّال مِن أنّه رؤيا رآها بعض الأنصار فأخبر بها النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فأمَرَه أن يُعَلِّمه بلالاً ، فهذا من القول محالٌ لا تقبله العقول ؛ لأنَّ الأذان من أُصولِ الدين ، وأُصولُ الدين لا يعلمها رسول الله على لسان بشر من العالمين ) (3) .

(1) الأذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي 18 ـ 19 ، وبتحقيق عزّان 58 .
(2) كنز العمّال 12 : 350/35354 ، عن ( ابن مردويه ) .
(3) الأحكام ، للإمام الهادي بالله الزيديّ 1 : 84 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 47 ـ
   الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام ( ت 114 هـ ) :
   جاء في الكافي والتهذيب والاستبصار ـ والنصّ للأخيرينِ ـ بإسناد الشيخ الطوسي عن محمّد بن عليّ بن محبوب ، عن عليّ بن السنديّ ، عن ابن أبي عُمير ، عن ابن أُذينة ، عن زُرارة والفُضيل بن يسار ، عن أبي جعفر [ الباقر ] عليه السلام ، قال :
   ( لمّا أُسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبلغ البيت المعمور حضرت الصلاة ، فأذَّن جبرئيل وأقام ، فتقدَّم رسول الله ، وصفَّ الملائكة والنبيّون خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) .
   قال : فقلنا له : كيف أذّن ؟
   فقال : ( اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ، أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل ، اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ، لا إله إلاَّ الله ، لا إله إلاَّ الله ؛ والإقامة مثلها إلاَّ أنَّ فيها : ( قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ) بين : ( حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل ) ، وبين : ( اللهُ أكبر اللهُ أكبر ) ، فأمر بها رسولُ الله بلالاً ، فلم يَزَل يؤذِّن بها حتّى قَبض اللهُ رسولَه صلى الله عليه وآله وسلم ) (1) .
   وفي الكافي : بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ وأبي منصور ، عن أبي الربيع ، قال : ( حَجَجنا مع أبي جعفر [ الباقر ] عليه السلام في السنة التي كان حجّ فيها هشام بن عبدالملك ، وكان معه نافع مولى عبدالله بن عمر بن الخطّاب ، فنظر نافع إلى أبي جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال : يا أمير المؤمنين ، مَن

(1) الكافي 3 : 302/1 وفيه صدر الحديث ، التهذيب 2 : 60/210 ، الاستبصار 1 : 305 / باب عدد فصول الأذان ح 3 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 48 ـ
  هذا الذي قد تَداكَّ عليه الناس ؟!
   فقال : هذا نبيُّ أهل الكوفة ، هذا محمّد بن عليّ !
   قال : أشهد لأَتينّه ولأسألنّه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبيّ أو ابن نبيّ أو وصيّ نبيّ .
   قال : فاذهب إليه وسَله لعلكّ تُخجِلُه !
   فجاء نافع حتّى اتّكأ على الناس ثمّ أشرف على أبي جعفر ، فقال : يا محمّد ابن عليّ! إني قرأت التوراة ، والإنجيل ، والزّبور ، والفرقان وقد عرفتُ حلالها وحرامها وقد جئت أسألُك عن مسائل ...
   [ومنها] : من الذي سأل محمّدٌ (1) وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة ؟
   قال : فتلا أبو جعفر عليه السلام هذه الآية ( سبحان الذي أسرى بعبدهِ ليلاً مِن المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي بارَكْنا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا ) (2) ، فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمّداً حيث أسري به إلى بيت المقدس أن حشر الله الأوّلين والآخرين من النبيّين والمرسلين ، ثمّ أمر جبرئيل فأذَّن شفعاً ، وأقام شفعاً ، وقال في أذانه : حيّ على خير العمل ، ثمّ تقدّم محمّدٌ وصلَّى بالقوم ) (3) .
   وجاء في كتاب ( الأذان بحيّ على خير العمل ) للحافظ العلوي : أخبرنا عبدالله بن مخالد (4) ، أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد ، حدّثنا محمّد بن عمرو

(1) في قوله تعالى ( فاسال مَن أرسلنا من قبلك ) .
(2) الإسراء : 1 .
(3) الكافي 8 : 120 / 93 وعنه في بحار الأنوار 81 : 136 ، وسائل الشيعة 5 : 414 ، الاحتجاج 2 : 60 .
(4) في تحقيق عزّان : مجالد البجلي ، وكذا في الاعتصام 1 : 306 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 49 ـ
  ابن عثمان ، حدّثنا محمّد بن سنان ، حدّثنا عمّار بن مروان ، عن المنتخل (1) ، عن جابر قال : سألت أبا جعفر عن الأذان : كيف كان بدؤه ؟ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أُسري به إلى السماء ، نزل إليه جبريل ، ومعه محملة من محامل الربّ عزّ وجلّ ، فحمل عليها رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ، فأذّن جبريل ، فقال : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لاإله إلاّ الله ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أن محمّداً رسول الله ، [ أشهد أن محمّداً رسول الله ] ، حيّ على الصلاة ، [ حيّ على الصلاة ] ، حيّ على الفلاح ، [ حيّ على الفلاح ] ، حيّ على خير العمل ، [ حيّ على خير العمل ] ، وذكر الحديث (2) .
   وفي كتاب الاعتصام بحبل الله : .. وروى محمّد بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : من جهالة هذه الأمّة أن يزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّما علم الأذان من رؤيا رآها رجل ، وكذبوا والله .
لما أراد الله أن يعلّم نبيّه الأذان جآءه جبريل عليه السلام بالبُراق ، وذكر الحديث بطوله (3) .
   ثمّ قال بعد ذلك : ... وفي الشفا للأمير الحسن ، روى الباقر محمّد بن عليّ السجّاد بن الحسين السبط الشهيد بن عليّ الوصيّ ، والقاسم بن إبراهيم والهادي إلى الحقّ يحيى بن الحسين الحافظ ، والناصر للحقّ الحسن بن عليّ عليهم السلام أن الله عَلَّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أُسرِيَ به ليلاً من المسجد الحرام إلى

(1) في تحقيق عزّان : المنخل ، وفي الاعتصام 1 : 306 ( المنتحل ) .
(2) الأذان بحيّ على خير العمل ، للحافظ العلوي : 82 ، بتحقيق الفضيل ، وانظر : ص 21 و 28 من الكتاب نفسه وبتحقيق عزّان 60 ، والاعتصام بحبل الله 1 : 286 .
والزيادات من الاعتصام 1 : 306 .
(3) الاعتصام بحبل الله 1 : 277 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 50 ـ
  المسجد الأقصى ؛ أمر الله مَلَكاً من ملائكته فعلّمه الأذان (1) .
   الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام ( ت 148 هـ ) :
   روى الكلينيّ بسنده عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عُمير ، عن حمّاد ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبدالله [ الصادق ] عليه السلام ، قال : ( لمّا هبط جبرئيل بالأذان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان رأسه في حِجر عليّ عليه السلام ، فأذَّن جبرئيل وأقام ، فلمّا انتبه رسول الله ، قال : يا عليّ ! سمعت ؟
   قال : نعم .
   قال : حفظت ؟
   قال : نعم .
   قال : ادعُ بلالاً فعلِّمْه .
فدعا عليّ بلالاً فعلَّمَه ) (2) .
   وفي تفسير العيّاشيّ عن عبدالصمد بن بشير ، قال : ذُكِر عند أبي عبدالله بدء الأذان ، فقال : إنَّ رجلاً مِن الأنصار رأى في منامه الأذان ، فقصَّه على رسول الله فأمره الرسول أن يعلّمه بلالاً .
   فقال أبو عبدالله : كذبوا ؛ إنَّ رسول الله كان نائماً في ظِلّ الكعبة ، فأتاه جبرئيل

(1) الاعتصام بحبل الله 1 : 278 .
(2) الكافي 3 : 302/2 ، التهذيب 2 : 277/1099 مثله ، ورواه الصدوق في من لا يحضره الفقيه 1 : 183/865 بإسناده عن منصور بن حازم ، ولا يخفى عليك بأن هذا النص لا يخالف ما ثبت عند أهل البيت وبعض أهل السنة والجماعة من كون تشريع الأذان كان في الاسراء والمعراج ، لأن التأذين في المعراج هو في مرحلة الثبوت ، أما التأذين في الأرض فهو في مرحلة الاثبات ، وسيتضح معنى كلامنا هذا اكثر في الباب الثالث من هذه الدراسة ( اشهد ان عليّاً ولي الله ، بين الشرعية والابتداع ) فانتظر .