ومعه طاس فيه ماء مِن الجنّة فأيقظه ، وأمره أن يغتسل به ، ثمّ وضع في محمل له ألف ألف لون مِن نور ، ثمّ صعد به حتّى انتهى إلى أبواب السماء ، فلمّا رأته الملائكة نَفَرت عن أبواب السماء ، وقالت : إلهانِ ! إلهٌ في الأرض ، وإله في السماء ؟!
   فأمر اللهُ جبرئيلَ ، فقال : اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ، فتراجعت الملائكة عن أبواب السماء ، فقالت : إلهانِ ! إله في الأرض وإله في السماء ؟!
   فقال جبرئيل : أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، فتراجعت الملائكة وعَلِمتْ أنّه مخلوق .
   ثمّ فتح الباب فدخل ومَرَّ حتّى انتهى إلى السماء الثالثة ، فنَفَرت الملائكة عن أبواب السماء ، فقال جبرئيل : أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، فتراجعت الملائكة ، وفتح الباب ومَرَّ النبيُّ حتّى انتهى إلى السماء الرابعة ...
   ـ إلى أن قال ـ : ... فلمّا فرغ من مناجاة ربّه رُدّ إلى البيت المعمور وهو في السماء السابعة بحذاء الكعبة ، قال : فجمع له النبيّين والمرسلين والملائكة ، ثمّ أمر جبرئيل فأتمَّ الأذان وأقام الصلاة ، وتقدّم رسول الله فصلّى بهم ، فلمّا فرغ التفت إليهم فقال الله له : ( فسئل الذيِنَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ من رَّبِّكَ فَلأ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرين ) (1) ، فسألهم يومئذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ نزل ومعه صحيفتان فدفعهما إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، فقال أبو عبدالله عليه السلام : فهذا كان بدء الأذان ) (2) .

(1) يونس : 94 .
(2) تفسير العيّاشيّ 1 : 157/530 ، المستدرك 4 : 42 ـ 43 وانظر : بيان المجلسيّ في بحار الأنوار 81 : 121 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 52 ـ
   وروى الصدوق باسناده عن الصباح المزنيّ وسدير الصيرفي ومحمّد بن النعمان الأحول وعمر بن أُذينة أنّهم حضروا عند أبي عبدالله عليه السلام ، فقال : ( يا عمر بن أُذينة ! ما ترى هذه الناصبة في أذانهم وصلاتهم ؟ .
   قال : جُعِلتُ فداك ؛ إنّهم يقولون : إنَّ أُبيّ بن كعب الأنصاريّ رآه في النوم .
   فقال عليه السلام : كذبوا والله ، إنَّ دين الله تعالى أعَزُّ من أن يُرى في النوم .
وقال أبو عبدالله : العزيز الجبّار عَرَج بنبيّه إلى سمائه ـ فذكر قصّة الإسراء بطولها ـ ) (1) .
   وفي نصّ آخر ، قال عليه السلام : ( ينزل الوحيُ على نبيِّكم فتزعمون أنَّه أخذ عن عبدالله بن زيد ؟! ) (2) .
   وعن عليّ بن إبراهيم عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أُذينة ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : ( ما تروي هذه الناصبة ؟ ) .
   فقلت : جُعِلت فداك ؛ في ماذا ؟
   فقال : ( في أذانهم وركوعهم وسجودهم ) .
   فقلت : إنّهم يقولون : إنَّ أُبيَّ بن كعب رآه في النوم .
   فقال : ( كذبوا ، فإنَّ دين الله عزّ وجلّ أعَزُّ مِن أن يُرى في النوم ) .
   قال : فقال له سدير الصيرفيّ : جُعلت فداك ؛ فأحدِثْ لنا مِن ذلك ذِكراً .
   فقال أبو عبد عليه السلام : ( إنَّ الله عزّ وجلّ لمّا عَرَج بنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى سماواته السبع ، أمّا أُولاهُنَّ فبارَك عليه ، والثانية علّمه فرضه فأنزل الله محملاً من نور فيه أربعون نوعاً من أنواع النور كانت مُحدِقة بعرش الله تغشي أبصار الناظرين ... (3).
   قال : ثمّ زادني ربّي أربعين نوعاً من أنواع النور لا تشبه الأنوار الأُولى ، ثمّ عرج

(1) انظر : علل الشرائع 312/1 ، وعنه في بحار الأنوار 8 : 354 .
(2) وسائل الشيعة 5 : 370/6816 .
(3) الحديث طويل أخذنا مقاطع منه .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 53 ـ
  بي إلى السماء الثالثة ، فنَفَرت الملائكة وخَرَّتْ سُجَّداً ، وقالت : سبُّوح قدُّوس ربُّ الملائكة والرُّوح ، ما هذا النور الذي يشبه نور ربّنا ؟!
   فقال جبرائيل عليه السلام : أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله .
   فاجتمعت الملائكة وقالت : مرحباً بالأوّل ، ومرحباً بالآخِر ، ومرحباً بالحاشر ، ومرحباً بالناشر ، محمّد خير النبيّين وعليّ خير الوصيّين .
   قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : ثمّ سَلَّموا علَيَّ وسألوني عن أخي ، قلتُ : هو في الأرض ، أفتعرفونه ؟
   قالوا : وكيف لا نعرفه وقد نَحجّ البيت المعمور كلَّ سنة وعليه رَقّ أبيض فيه اسم محمّد واسم عليّ والحسن والحسين [ والأئمة ] عليهم السلام وشيعتهم إلى يوم القيامة ، وإنّا لَنُبارِك عليهم كلّ يوم وليلة خمساً ـ يعنون في وقت كلّ صلاة ـ ...
   قال : ثمّ زادني ربّي أربعين نوعاً من أنواع النور لا تشبه تلك الأنوار الأُولى ، ثمّ عرج بي حتّى انتهيت إلى السماء الرابعة ، فلم تَقُل الملائكة شيئاً ، وسمعت دَويّاً كأنّه في الصدور ، فاجتمعت الملائكة ففتحت أبواب السماء وخرجت إليَّ شبه المعانيق ، فقال جبرئيل عليه السلام : حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ؛ حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح .
   فقالت الملائكة : صوتان مقرونان معروفان .
   فقال جبرئيل عليه السلام : قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ...
   ثمّ أوحى الله إليَّ : يا محمّد! ادنُ من صاد فاغسل مساجدك وطهّرها وصلِّ لربِّك .
   فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صاد (1) ، وهو ماءٌ يسيل من ساق العرش الأيمن ،

(1) وللشيخ الجوادي الآملي في كتابه ( أسرار الصلاة ) : 86 ، 22 بيان في ذلك فراجع .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 54 ـ
  فتلقّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الماء بيده اليمنى ، فمن أجل ذلك صار الوضوء باليمين .
   ثمّ أوحى الله عزّوجل إليه أن : اغسل وجهك (1) ...
   وفي تفسير عليّ بن إبراهيم القمّيّ ( سورة بني اسرائيل ) عن أبيه ، عن محمّد ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن الصادق عليه السلام ـ في خبر طويل جدّاً ـ قال فيه : ( فإذا مَلَكٌ يُؤَذِّن لم يُرَ في السماء قبل تلك الليلة ، فقال : الله أكبر ، الله أكبر ؛ فقال الله : صدق عبدي أنا أكبر .
   فقال : أشهد أن لا إله إلاَّ الله ، أشهد أن لا إله إلاَّ الله ؛ فقال الله تعالى : صدق عبدي ، أنا الله لا إله غيري .
   فقال : أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ؛ فقال الله : صدق عبدي ، إنَّ محمّداً عبدي ورسولي أنا بعثته وانتجبته .
   فقال : حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ، فقال : صدق عبدي ، دعا إلى فريضتي ، فَمَن مشى إليها راغباً فيها محتسباً كانت كفّارة لِما مضى من ذنوبه .
   فقال : حيّ على الفلاح [ حيّ على الفلاح ] ؛ فقال الله : هي الصلاح والنجاح والفلاح .
   ثمّ أمَمتُ الملائكة في السماء كما أمَمتُ الأنبياء في بيت المقدس ... ) (2) .
   وقد أخرج الحافظ العلوي في كتابه ( الأذان بحيّ على خير العمل ) بقوله : حدّثنا الحسين بن محمّد بن الحسن ، حدّثنا عليّ بن الحسين بن يعقوب ،

(1) الكافي كتاب الصلاة باب النوادر 3 : 482 ـ 486/1 ، وللمزيد يمكن مراجعة خبرالإسراء في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 2 : 11 .
(2) تفسير القمّيّ 2 : 3 ـ 12 كما في مستدرك وسائل الشيعة 4 : 40 ، وفي تفسيرالعيّاشي 1 : 157 ح 530 عن عبدالصمد بن بشير عن الصادق في حديث المعراج ، إلى أن قال : ثمّ أمر جبرئيل فأتمّ الأذان واقم الصلاة .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 55 ـ
  أخبرنا أحمد بن عيسى العجلي ، حدّثنا جعفر بن عنبسة اليشكري ، حدّثنا أحمد بن عمر البجلي ، حدّثنا سلام بن عبدالله الهاشمي ، عن سفيان بن السمط ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه قال : أوّل مَن أذّن في السماء جبريل عليه السلام حين أُسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : الله أكبر ، الله أكبر ؛ فقالت الملائكة : الله أكبر من خلقه .
   فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، فقالت الملائكة : ونحن نشهد أن لا إله إلاّ الله .
   فقال ، أشهد أن محمّداً رسول الله ، أشهد أن محمّداً رسول الله ، فقالت الملائكة : عبد بُعِث .
   فقال جبريل : حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ؛ فقالت الملائكة : أُمِر القوم بالصلاة ، فقال : حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ؛ فقالت الملائكة : أفلح القوم .
   فقال : حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل ؛ فقالت الملائكة : أُمِر القوم بخير العمل .
وأقام الصلاة ، فقال النبيّ : يا جبريل ، تَقدّمْ صلِّ بنا ، فقال جبريل : يا محمّد ، إنّ الله عزّ وجلّ أمرنا أن نسجد لأبيك آدم ، فلسنا نتقدّم ولدَه ، فتقدّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلّى بالملائكة (1) .
   وقد نقل محمّد بن مكّيّ ـ الشهيد الأوّل ـ في ( ذكرى الشيعة ) قول ابن أبي عقيل ، قال : أجمعت الشيعة عن الصادق عليه السلام أنَّه لَعَن قوماً زعموا أنَّ النبيَّ أخذ الأذان من عبدالله بن زيد ، فقال : ( ينزل الوحي على نبيِّكم فتزعمون أنَّه أخذ الأذان من عبدالله بن زيد ؟! ) (2) .

(1) الأذان بحيّ على خير العمل ، للحافظ العلوي : 20 ، بتحقيق الفضيل ، وبتحقيق عزّان 59 .
(2) ذكرى الشيعة 3 : 195 ، وعنه في وسائل الشيعة 5 : 370 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 56 ـ
   الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام ( ت 204هـ ) :    أخرج الصدوق في ( عيون أخبار الرضا ) و ( علل الشرائع ) بسنده إلى الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام ، قال : ( قال رسول الله : لمّا عُرِج بي إلى السماء أذَّن جبرئيل مَثْنى مَثْنى وأقام مَثْنى مَثْنى ) (1) .
   وجاء في الاعتصام بحبل الله عن صحيفة عليّ بن موسى الرضا : ... حدّثني أبي موسى بن جعفر قال : حدّثني أبي جعفر بن محمّد قال : حدّثني أبي محمّد ابن عليّ قال : حدّثني أبي عليّ بن الحسين بن عليّ قال : حدّثني أبي الحسين ابن عليّ قال : حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لمّا بُدئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم الأَذان ، أتى جبريل عليه السلام بالبُراق فاستصعب عليه ، فأتاني بدابّة يقال لها برقة ـ من حديث طويل ـ فقال لها جبريل : اسكُني برقة ـ من حديث طويل فيهـ : فخرج مَلَك من وراء الحجاب فقال : الله أكبر الله أكبر .
   قال : فقلت : يا جبريل ، من هذا المَلَك ؟ قال : والذي أكرمك بالنبوّة ، ما رأيت هذا المَلَك قبل ساعتي هذه ، فقال المَلَك : الله أكبر ألله أكبر .. فنُودِي من وراء الحجاب : صدق عبدي ، أنا أكبر أنا أكبر .
فقال الملك : أشهد أن لا إله إلاّ الله ... الخبر (2) .
   الأذان في قول بعض الأعلام
   قال الشيخ الطوسيّ : ( الأذان مأخوذٌ من الوحي النازل على النبيِّ دون الرؤيا

(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 204 باب ما جاء عن الرضا في زيد بن عليّ ح 22 ، علل الشرائع 1 : 6 وعنه في بحار الأنوار 81 : 108 .
(2) الاعتصام بحبل الله 1 : 278 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 57 ـ
والمنام ) (1).
   وقال السيّد محمّد العامليّ صاحب ( المدارك ) : ( قد أجمع الأصحاب على أنَّ الأذان والإقامة وحيٌ من الله تعالى على لسان جبرئيل عليه السلام كسائر العبادات ، وأخبارُهم به ناطقة ) (2).
   وقال الشهيد في الذكرى : ( وهما وحيٌ من الله تعالى عندنا كسائر العبادات على لسان جبرئيل عليه السلام ) (3).
   وهذه الرؤية النابعة من النصوص الدالّة على قداسة الأذان وأنّه بوحي من السماء لم تختصّ بمدرسة أهل البيت ، فقد حكى الداوديّ عن ابن إسحاق أنَّ جبرئيل أتى النبيَّ بالأذان قبل أن يراه عبدالله بن زيد وعمر بثمانية أيّام (4) ، ويؤيّده ما جاء عن عمر من أنّه ذهب ليشتري ناقوساً فأُخبِر أنَّ ابن زيد قد أُرِي الأذان في المنام ، فرجع ليخبر رسول الله ، فقال له : ( سبقك بذلك الوحي ) (5) .
   وقد روى عبدالرزّاق عن ابن جريج عن عطاء أنّه سمع عبيد بن عمير يقول : إنّ الأذان كان بوحي من الله(6) .
   وروى السيّد ابن طاووس ـ مِن علماء الشيعة الإماميّة ـ بإسناده إلى

(1) المبسوط 1 : 95 .
(2) مدارك الأحكام 3 : 255 المقدّمة السابعة من الأذان .
(3) ذكرى الشيعة 3 : 195 .
(4) سبل الهدى والرشاد 3 : 361 ، وانظر : تنوير الحوالك : 86 ، وفتح الباري2 : 65 .
(5) تاريخ الخميس 1 : 360 ، وانظر : السيرة الحلبيّة 2 : 301 ـ 302 .
(6) المصنَّف ، لعبدالرزّاق 1 : 456/1775 كتاب الصلاة بدء الأذان .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 58 ـ
  عبدالرزّاق عن معمر ، عن ابن حمّاد ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبيِّ في حديث المعراج ، قال : ( ثمّ قام جبرئيل فوضع سبّابته اليمنى في أذنه فأذّن مَثْنى مَثْنى ) .. يقول في آخرها : ( حيّ على خير العمل ، حتىّ إذا قضى أذانه أقام للصلاة مثنى مثنى ) (1) .
   وفي كنز العمّال ( مسند رافع بن خديج ) : لمّا أُسرِي برسول الله إلى السماء أوحي إليه بالأذان ، فنزل به فعلّمه جبرئيل ( الطبراني في الاوسط عن ابن عمر ) (2) .
   ولذلك حاول القسطلانيّ الشافعي في ( إرشاد الساري ) التخلّص من إشكال التشريع بالرؤيا ، فادّعى أنّ المشرِّع للأذان هو النصّ الذي أمَرَّ المنامَ لانفس المنام ، فقال : قوله تبارك وتعالى : ( وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ) معانيَ عبادة الله وشرائعه ، واستدلّ على مشروعيّة الأذان بالنصّ لا بالمنام وحده لكنك تعلم أنّ الإشكال باقٍ بحاله ، إذ لا معنى للمنام في هذه الحالة (3) .
   وقال السرخسيّ ـ مِن أعلام الحنفيّة ـ في ( المبسوط ) : ... وروي أنَّ سبعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين رأوا تلك الرؤيا في ليلة واحدة ، وكان أبو حفص محمّد بن عليّ ينكر هذا ويقول : تعمدون إلى ما هو من معالم الدين فتقولون : ثَبَت بالرؤيا! كلاَّ ولكنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم حين أُسري به إلى المسجد الأقصى وجُمِع له النبيّون ، أذَّنَ مَلَكٌ وأقام ، فصلَّى بهم رسول الله .
وقيل : نزل به جبرئيل عليه الصلاة والسلام ، حتَّى قال كثير بن مرة : أذَّن جبرئيل في السماء فسمعه عمر (4) .

(1) سعد السعود 100 ، وفي متن بحار الأنوار 81 : 107 : فوضع سبّابته اليمنى في أذنه اليمنى .. حيّ على خير العمل مَثْنى مَثْنى ... الخ .
(2) كنز العمّال 8 : 329 كتاب الصلاة فصل من الأذان ح 23138 .
(3) إرشاد الساري 2 : 2 كتاب الأذان .
(4) المبسوط للسرخسيّ 1 : 128 كتاب الصلاة باب الأذان .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 59 ـ
وقفة مع أحاديث الرؤيا

   اتّضح بجلاء ـ من خلال ما مرّ بنا من أحاديث وأقوال وغيرها ـ أنّ القول بتشريع الأذان في الإسراء والمعراج ، ممّا لم ينفرد به الإماميّة الاثنا عشريّة ، وإنّما قالت به الشيعة الزيدية والإسماعيلية أيضاً ، إضافةً إلى أعلام من أهل السنّة ، وهذا يعني أنّ تشريع الأذان ـ بوصفه فعلاً تعبّدياً ـ كان سماوياً وعُلْوياً وليس مناماً وأرضياً ، وهذا القول ينسجم تماماً مع التشريعات السماوية الإلهية ، ومع الاعتقاد بالنبوّة والوحي ، التي هي واسطة في التشريع بين الله تعالى وبين خلقه .
   أمّا القول بأنّه كان عبر منام رآه رجل واخبر به النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فإنّه من منفردات بعض أهل السنّة ، والذي أمسى قولاً مشهوراً لديهم فيما بعد .
   وإزاء اشتهار هذا القول عندهم ، تبرز طائفة من التساؤلات الملحّة التي تصدر من الرؤية الإسلاميّة لحقائق الاشياء وعمق التشريع الإلهي .
   ومن هذه التساؤلات : هل يسوغ لهذا القول ـ الذي يُسنِد تشريع الأذان إلى رؤيا أحد الناس ـ أن يتلاءم وأصول الشريعة القائمة على تلقّي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الله سبحانه ؟
   وهل يسوغ ـ في منطق الإسلام والوحي ـ أن تؤخذ الشريعة من الأحلام والمنامات والأقاصيص ، أو حتّى من المشاورة كما جاء في بعض أحاديث الأذان ؟
   أوّلاً : إنّ المنام لا يصحّ أن يُستنَد إليه في القضايا الشرعيّة ، ولا يمكن أن

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 60 ـ
  يُعتمَد عليه فى تشريع الأحكام .. اللهمّ إلاّ أن يكون رؤيا رآها رسول الله نفسه ؛ لأنّها جزء من الوحي .
   إنّ التلّقي عن الله وحصر الاخذ عنه جلّ وعلا تنفي كلّ ما عدا الوحي الإلهي في التشريع ، وتؤكّد أنّ هذا الوحي هو وحده المنبع الذي ليس للنبيّ أن يبدّله أو يغيّر فيه من تلقاء نفسه ، كما عرّفنا الله سبحانه ذلك بقوله : ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (1) .
   وقال : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) (2) .
   وقال أيضاً : ( قل إنما اتَّبعُ ما يُوحى إليَّ مِن ربّي هذا بَصائرُ مِن ربِّكُم وهُدىً ورحمةٌ لِقومٍ يُؤمنون ) (3) .
   وقال : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (4) .
   وقال في ملائكته : ( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (5) .
   إنّ هذه الآيات الشريفة صريحة في أنّه ليس لرسول الله ولا لملائكته أن يسبقوه بالقول أو أن يُشرِّعوا من قِبَل أنفسهم ، إذ ليس لهم إلاّ الاستماع إلى

(1) يونس : 15 .
(2) الأحقاف : 9 .
(3) الأعراف : 203 .
(4) النجم : 3 ـ 5 .
(5) الأنبياء : 26 ـ 27 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 61 ـ
  الوحي وانتظاره ، وقد انتظر الرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم الوحيَ في تغيير القبلة مدّة ستّة شهر أو سبعة حتّى نزل قوله تعالى : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ... ) (1) .
   أمّا التشاور فهو أبعدُ ما يكون عن أن يتولّد منه حكم شرعيّ ، ذلك أنّ لله الدين الخالص وليس لغيره فيه من شيّ ، كما قال جلّ جلاله : ( يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) (2) .
   من هنا يكون قول الحقّ تعالى : ( وشاوِرْهُم في الأمر ) دالاًّ على المشاورة في الموضوعات الخارجية وشئون الحياة اليومية ، والمواقف العملية من بعض الحوادث ، كالموقف في الحرب ومواجهة مكائد الأعداء وإمكانيّات سبل السلام ، وما إليها .
   وهذه المشاورة ذات ثمرات صالحة ، منها : أنّها تُشعِر المشاوَرين بالمشاركة في صنع الموقف المسؤول ، ومنها أنّها تَهَبُهم طاقة للاندفاع في سبيل تنفيذ مقرّرات هذه المشاورة وتحمّل نتائجها .
ومع ذلك كلّه تظلّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة الأخيرة في مقرّرات المشاورة ، فهو الذي يحدّد ما ينبغي وما لاينبغي ، ويكون عزمه في المسألة هو الساري الجاري ( فإذا عزمت فتوكَّلْ على الله ) .
   إنّ الشورى ليس لها دخل في الأحكام ، ومتى تدخّلت في الحكم فإنّها تكون قد شاركت الوحيَ في التشريع ، وهَوَّنت من شأن النبوّة والنبيّ ، وفتحت باباً للتقوّل على الله .. ذلك التقوّل الذي هدّد اللهُ تعالى باجتراح ولو بعض منه .
   ولقد حذّر اللهُ رسولَه ـ وهو أحبّ خلقه إليه ـ أيما تحذير ، وهدّده أيّما

(1) البقرة : 144 .
(2) آل عمران : 154 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 62 ـ
  تهديد .. إذا ما غيّر حرفاً واحداً ، وذلك لمّا جاءه أهل قرية الناصرة بأحمال الذهب والفضّة والحرير وأرادوا إعطاءها رشوةً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقابل أن يُبدّل حرف الباء تاءً في لفظة ( أبَوا ) بعد نزول قوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا ) (1) .
   وعندئذ نزل التهديد الإلهيّ الحازم ليعلم الناس أنّ دين الله خالص نقيّ لا يجوز بحالٍ أن يشوبه شيء من رأي البشر ولو قَلّ وضَئُل إلى مستوى حرفٍ إستمع الى تعابير المواجهة والإنذار : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * َمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (2) ، وهو الذي ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (3).
   ثانياً : إنّ الأذان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفريضة الصلاة التي هي ( خيرُ موضوع ) ، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي عمود الدين وأساسه الجوهري .. إلى حدّ أن جعل الإمام الهادي الزيدي الأذان من أصول الدين! كما مرّ بنا سابقاً .
   والأذان مقدّمة للصلاة ، وكلاهما عبادة خالصة لله عزّ وجلّ صادرة عن حقيقة وجودية توحيدية عميقة .
   من هنا يكون من الغفلة الاعتقاد بأنّ الله عزّ وجلّ قد أمر خاتم أنبيائه الكرام بإقامة الصلاة على وجهها الذي شرّعه الله تعالى ، ثمّ ترك شأن تعليم أذان الصلاة وإقامتها لأُناس عاديّين يقولون إنّهم رأوها في المنام! أو إنّهم قد أضافوا إليها من عندهم ما يكملها ، دون أن يُعلّمها رسولَه الذي هو مبلّغ الوحي وحامل راية الهدى لأجيال البشرية كافّة .
   ثالثاً : تشير بعض النصوص السنيّة التي أوردتها كتب الصحاح والسنن في موضوع الأذان إلى أنّ رسول الله كان في حيرة من أمر الأذان ، ولم يكن يعلم

(1) الكهف : 77 .
(2) الحاقّة : 44 ـ 47 .
(3) النجم : 3 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 63 ـ
  الحكم الإلهيّ فيه أيّاماً ، حتّى شاور الصحابةَ في ذلك ، وأمر بناقوس النصارى ليكون إعلاماً لوقت الصلاة حتّى ( كاد ينقس ) !
   وفي هذا الرأي من التوهين والتقليل من شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا خفاء فيه ، وهو ممّا يرفضه منطق القرآن الكريم ، ويرفضه المنطق الإيماني على وجه العموم ، ذلك أنّ هذا التوهين يعارض دعوةَ القرآن المسلمين إلى توقير رسول الله وتعظيمه ، ويضادّ نهي الذين آمنوا أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، تعريفاً بتميّزه وعلوّ مقامه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) (1) اهتماماً بمكانته صلى الله عليه وآله وسلم وشأنه .
   وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الآية نزلت لمّا تنازع أبو بكر وعمر في تعيين مَن يكون موفد الرسول المصطفى إلى بني تميم .
   فقال أبو بكر : القعقاع بن معبد ، وقال عمر : الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردتَ إلاَّ خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، فتمارَيا حتّى ارتفعت أصواتهما ، فنزلت في ذلك هذه الآيات الحكيمة (2) .
   فإذا كان الله سبحانه لا يرتضي التنازع ورفع الصوت بمحضر النبيِّ في أيّة قضيّة من القضايا احتراماً له وتوقيراً لمقامه ، فكيف يصحّ أن يُنسَب إليه التحيّر في شأن أمر تعبّدي كالأذان حتّى اختار ـ أو كاد أن يختار ـ ناقوس النصارى يُنقس به إعلاماً للصلاة ؟!

(1) الحجرات : 1 ـ 2 .
(2) انظر : صحيح البخاريّ 6 : 290 كتاب المغازي ، باب وفد بني تميم ج 812 ، باب وفد بني تميم .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 64 ـ
   رابعاً : أهمل الشيخان البخاريّ ومسلم وكذا الحاكم النيسابوريّ في مستدركه ذِكْر أحاديث رؤيا عبدالله بن زيد ، بل في المستدرك عن ( سفيان بن الليل عن الإمام الحسن السبط ) ما يُسَخِّف تشريع الأذان بالمنام .
   وقد أجاب الحاكم معلّلاً تركَ الشيخين أحاديث عبدالله بن زيد التي قصّها على رسول الله بقوله : ( ... وإنّما ترك الشيخان حديث عبدالله بن زيد في الأذان والرؤيا التي قصّها على رسول الله بهذا الإسناد (1) ، لتقدّم موت عبدالله بن زيد ، فقد قيل : إنَّه استُشهد بأُحد ، وقيل : بعد ذلك بيسير ، والله أعلم ) (2) .

(1) ليس فيما روي عن عبدالله بن زيد في الأذان ما رجاله على شرط الشيخين إلاّ ما رواه بشير بن محمد بن عبدالله بن زيد عن جدّه عبدالله بن زيد ، ولكن لم يخرجه الشيخان في صحيحيهما لأنّه منقطع ؛ فالحفيد بشير لم يدرك جدّه عبدالله بن زيد .
(2) المستدرك للحاكم 4 : 348 كتاب الفرائض ، باب ردّ الصدقة ميراثاً ، قال ابن حجر في تلخيص الحبير 3 : 12 .
   ( وقال الحاكم والبيهقي : الروايات عن عبدالله بن زيد في هذا الباب كلّها منقطعة ؛ لأنّ عبدالله بن زيد استشهد يوم أحد ، ثمّ أسند عن الدراوردي عن عبيدالله بن عمر قال : دخلت ابنة عبدالله بن زيد على عمر بن عبدالعزيز فقالت : يا أمير المؤمنين ، أنا ابنة عبدالله بن زيد ، شهد أبي بدراً وقتل يوم أحد ، وفي صحّة هذا نظر ؛ فإن عبيدالله بن عمر لم يدرك هذه القصّة ... وروى الواقدي عن محمد بن عبدالله بن زيد قال : تُوفّي أبي بالمدينة سنة اثنين وثلاثين ، وقال ابن سعد : شهد أحداً والخندق والمشاهد كلها ، ولو صحّ ما تقدم للزم أن تكون بنت عبدالله بن زيد صحابية ) ، عن تلخيص الحبير 3 : 162 ـ 163 .
   أقول : الظاهر أنّ كلام الحاكم هو الصحيح ، فإنّ الراوي هو عبيدالله بن عمر العمري كما في الإصابة 2 : 312 ترجمة عبدالله بن زيد بن ثعلبة ، وهو عبيدالله بن عمر بن حفص ابن عاصم بن عمر بن الخطّاب ، المتوفّى سنة 144 أو 145 أو 147 هـ ، والمسند إليه صحيح بلحاظ الراوي والمروي عنه .
انظر : تهذيب الكمال 19 : 124 ـ 130 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 65 ـ
   ويشير إهمال الشيخين لهذا الحديث إلى أنّه لا أصل لحديث عبدالله بن زيد عن رسول الله ، ويؤيّد ذلك ما أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء في ترجمة عمر بن عبدالعزيز عن عبيدالله بن عمر ، قال : ( دَخَلتْ ابنة عبدالله بن زيد على عمر بن عبدالعزيز ، فقالت : يا أمير المؤمنين ، أنا بنت عبدالله بن زيد ، أبي شهد بدراً وقُتِل يوم أحد ، فقال عمر :
تلك المكارِمُ لا قعبان من لَبنٍ   شيبا بماء فعادا بَعدُ أبوالا    سَليني ما شئتِ ، فسألت فأعطاها ما سألت (1) .
   ولو ثبت بشكل قطعي أنَّ عبدالله رأى الأذان لَذَكرتْ ابنته هذه المكرمة له وعدّتها ضمن منقبتيه الأُوليين : حضوره بدراً وقتله بأُحد ، بل أن فضيلة رؤيا الأذان لو كانت واقعةً فعلاً لَما ضاهاها شيء ؛ إذ إنّ الوحي قد وافقه في هذه المسألة دون عموم بني البشر ، وهي أهمّ من حضوره بدراً وقتله بأُحد ، وذلك لمشاركة آخَرين له في هاتين الفضيلتين .
   إنَّ عدم ذكر ابنة عبدالله بن زيد لهذه المنقبة ـ وهي في معرض استعطاف عمر بن عبدالعزيز ـ ليشير إلى عدم ثبوت هذه المكرمة له في العهد الأوّل .
   خامساً : من الثابت عند أهل العلم أنّ رؤيا الأنبياء وحدهم حجّة ، لا رؤيا غيرهم .
نعم ، إنّهم صحّحوا هذه الرؤيا والمنامات الأخرى بتطابق الوحي معها .
   قال العسقلانيّ : ( وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبدالله بن زيد ، لأنَّ رؤيا غير الأنبياء لا يُبنى عليها حكم شرعيّ ، وأُجيب باحتمال مقارنة

(1) حلية الأولياء 5 : 322 ترجمة عمر بن عبدالعزيز ، وعنه في الإصابة 2 : 312 ترجمة عبدالله بن زيد بن عبد ربّه بن ثعلبة .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 66 ـ
  الوحي لذلك ... ) (1) .
   لكنّ هذا الجواب غير علميّ ولا دقيق ؛ لأنَّ مجرّد احتمال مقارنة الوحي لا يفيد ، إذ لو كان ذلك صحيحاً لذكرته الروايات المعتمدة في الباب ولم تنحصر باجتهادات أمثال ابن حجر .
   ثمّ لماذا لم ينزل الوحي على رسول الله حينما كان متحيّراً في أوّل أمره ( أي حينما قَدِم المدينة ) حتّى أخبره عبدالله بن زيد بمنامه ، ثمّ تطابق الوحي مع الرؤيا بعد ذلك ؟!
   إنَّ تعارض النصوص وتخالفها مع الثوابت الأُخرى تُخطِّئ هذه الرؤية ؛ لأنَّ القول بتشريع الأذان في المَسرى لا يتطابق مع حيرة النبيّ وسعيه لمشاورة الصحابة في المدينة ، وخصوصاً حينما نشم رائحة الغلوّ من بعض النصوص وادِّعاء نزول ما يشابه الوحي على عبدالله بن زيد ، أو على عمر ، أو بلال ، لقول عبدالله في بعض النصوص : ( كأنّي وأنا بين نائم ويقظان ) ، وفي آخر : ( لولا أن يقول الناس لقلتُ بأنّي كنتُ يقظان غير نائم ) !!
   أو ما جاء في نصوص أُخرى : ( إنَّ جبرئيل أذَّن في سماء الدنيا ، فسمعه عمر وبلال ، فسبق عمر بلالاً فأخبر النبيّ ثمّ جاء ... ) ، أفَلا ترى أنّ هذه النصوص ترفع من شأن عبدالله بن زيد ومن شأن عمرَ إلى مرتبة النبوّة ، وتغلو فيهما ؟!
   بل العجب العجاب أن نرى إلقاء العبء الأكبر في الأذان على عبدالله بن زيد بن عبدربّه الخزرجي الأنصاري ، هذا الصحابي غير الواضح المعالم في التاريخ والفقه ، والذي لم يُعرَف ولم يشتهر إلاّ عبر هذه المفردة ، إذ عرف بـ ( الذي أُرِيَ الأذان ) .
ومثل ذلك ما قيل في سَمِيّه عبدالله بن زيد بن عاصم

(1) فتح الباري 2 : 65 باب الأذان مثنى .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 67 ـ
  المازني الأنصاري ( صاحب حديث الوضوء ) الذي ألقوا على عهدته قسماً من الوضوء الثلاثي الغَسلي وادّعوا أن الأخبار الصحيحة جاءت عنه وهو منها بريء !
   فلماذا هذان الصحابيان الأنصاريان الغامضا المعالم ؟! اللذان لا يعرفان إلاّ في حديثَي الأذان والوضوء ؟!
   وبعد هذا ، لابدّ من الإشارة إلى إشكال آخر أثاره السُّهيليّ (1) والعسقلانيّ وغيرهما حاولوا الاجابة عنه .
   قال ابن حجر في إرشاد الساري : ( فإن قلتَ : ما الحكمة في تخصيص الأذان برؤيا رجل ولم يكن بوحي ؟
   أُجيب : لما فيه من التنويه بالنبيّ والرفع لذِكره ؛ لأنَّه إذا كان على لسان غيره كان أرفَعَ لذكره وأفخَرَ لشأنه ، على أنَّه روى أبو داود في المَراسيل أنَّ عمر لمّا رأى الأذان جاء ليخبر النبيّ فوجد الوحي قد ورد بذلك ، فما راعه إلاّ أذان بلال ، فقال له عليه السلام : سبقك بها الوحي .
ورواة هذا الحديث خمسة ، وفيه التحديث والإخبار ) (2) .
   وهذا التعليل عليل ، لأنَّه لو صحّ للزم لحاظ هذا الوجه في كلّ شيء ورد فيه ذِكر الشهادتين ، لأنَّ نقل ذلك على لسان غيره أرفع لذكره وأفخر لشأنه وأدفع لتهم أعدائه ، في حين نعلم بأنَّ الباري جَلَّ شأنه هو الذي رفع ذِكره بقوله : ( ورفعنا لك ذكرك ) (3) ، وبعد هذا فلا يحتاج إلى أن يرفع ذكره بعد الباري جلّ شأنه أحدٌ .

(1) في الروض الانف 2 : 356 .
(2) إرشاد الساري 2 : 4 .
(3) الشرح : 4 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 68 ـ
   هذه أهمّ الأقوال التي قيلت في تشريع الأذان عند مدرسة أهل السنّة والجماعة ، وقد يمكن إرجاع بعضها إلى بعض ، وتقليص حجم اختلافاتها ، غير أنّ إعادة جميع النصوص إلى قول واحد محالٌ من القول ، لأنّ القول بتشريعها والتأذين بها في الإسراء والمعراج لايتّفق مع هَمِّ وغمّ رسول الله في المدينة وجلوسه مع أصحابه يستشيرهم في كيفيّة التأذين وطريقة جمع المسلمين على شيء واحد .
   وهكذا الحال بالنسبة إلى ما جاء عن عمر وأنّه كان أوّل من سمع أذان جبرئيل في السماء ثمّ بلال ، أو ما حكي عنه من أنّه أضاف الشهادة بالنبوة في الأذان بعد أن كانت فيه الشهادة بالتوحيد فقط ، فإنّه لا يتّفق مع تشريع الأذان في المسرى .
   وكذا القول بأنّ أبا بكر كان أوّل مَن أخبر رسولَ الله بالأذان ـ كما في خبر جامع المسانيد ـ فهو يخالف المشهور بين المحدّثين من أنّ عبدالله بن زيد الأنصاريّ كان أوّل مَن أخبر رسول الله بمنامه .
   وكذا الحال بالنسبة إلى ما اشتهر عن عبدالله بن زيد وأنّه أخبر رسول الله في الصّباح ـ بعد أن نام بالليل ـ لقوله : ( فلمّا أصبحتُ أتيت رسول الله ) أو : ( فلما غدا ... ) وهو يخالف ما قاله الحافظ الدمياطي في سيرته من أنّ عبدالله بن زيد أتى رسول الله ليلاً وأخبره (1) .
   وقد حاول الحلبيّ لجمع بين القولين ذاهباً إلى عدم المنافاة بينهما ؛ لأنّ جملة : ( فلمّا أصبحتُ ) أو : ( فلمّا غدا ) إشارة إلى مقاربة الوقت للصباح .
   وهذا تأويل بعيد يخالف الظاهر ، لأن المتبادر من كلمة ( فلما اصبحت ) أو ( غدوت ) صريح في الصبح ، فكان على الحلبي أن يخطّئ نقل الحافظ

(1) انظر : السيرة الحلبية 2 : 299 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 69 ـ
  الدمياطي وهو خير له من أن يقول بهذا القول .
   وكذا الحال بالنسبة إلى عمر بن الخطّاب ، ففي بعض النصوص نراه يخرج حينما سمع الأذان ( وهو في بيته يجرّ رداءه ) ، وفي بعض آخر نراه يقترح على رسول الله بقوله : ( أوَ لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة ؟ ) ، فـ ( فخرج يجر رداءه ) يختلف مع ( أو لا تبعثون ) لكون الثاني يشير إلى أنَّ الأذان شُرِّعَ باقتراح عمر ابن الخطّاب وأنَّه كان بمحضر الرسول ، أمّا جملة ( فخرج يجر رداءه ) فتشير إلى أنَّه سمع الأذان وهو في بيته .
   قال القسطلاني في إرشاد الساري ـ بعد أن أتى بخبر ابن عمر السابق الذكر ـ : ( كان المسلمون حين قدموا المدينة ) ، قال الحافظ ابن حجر بأنَّ سياق حديث عبدالله بن زيد يخالف ذلك ، فإنَّ فيه أنَّه لمّا قصَّ رؤياه على النبيِّ ، قال : فسمع عمر الصوت فخرج فأتى النبيَّ فقال : رأيتُ مِثل الذي رأى .
فدلَّ على أنَّ عمر لم يكن حاضراً لمّا قصَّ عبدالله .
   قال : والظاهر أنّ إشارة عمر بإرسال رجل ينادي بالصلاة كانت عقب المشاورة فيما يفعلونه ، وأنَّ رؤيا عبدالله كانت بعد ذلك ، وتعقّبه العينيّ بما رواه أبو داود عن أبي بشر ، عن أبي عمير ، عن أنس ، عن عمومة له من الأنصار ، أنّ عبدالله بن زيد : قال ( إذ أتاني آتٍ فأراني الأذان ، وكان عمر قد رآه قبل ذلك فكتمه ، فقال له النبيُّ : ما منعك أن تخبرنا ... ) إلى آخره ، ليس فيه أنَّ عمر سمع الصوت فخرج ، فقال : فهو يُقَوي كلام القرطبيّ ويردّ كلام بعضهم ـ أي ابن حجر ـ انتهى .
   وأجاب ابن حجر في انتقاض الاعتراض بأنَّه إذا سكت في رواية أبي عمير عن قوله : فسمع عمر الصوت فخرج ، وأثبتها ابن عمر ، إنّما يكون إثبات ذلك

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 70 ـ
  دالاً على أنَّه لم يكن حاضراً ، فكيف يعترض بمثل هذا ؟! (1) .
   ومجمل الكلام أنّهم بهذه الوجوه سعوا للجمع بين بعض النصوص ، ولكن أنَّى لهم الجمع في مواردها الأخرى ؟ فانهم كلّما رقعوا منها جانباً انخرق منها جانب آخر ، ونحن تركنا مناقشة تلك الروايات سنداً خوفاً من الاطالة ، مكتفين بالتعليق على دلالة بعضها .
   وخلاصة القول : أنَّ الأذان كغيره من الشرائع قد جرى فيه اتِّجاهان :
   أحدهما : يقول بتشريعه في الإسراء والمعراج وأنَّه من الوحي الذي لا يجوز فيه الزيادة والنقصان .
   وثانيهما : يعتقد بأنَّ تشريعه جاء على أثر منام رآه عبدالله بن زيد بن عبد ربّه ، أو أنّه شُرِّع بمشورة من الصحابة .
   وقد اختلف الاتّجاهان في المفاهيم والأُصول ، لأنَّ القائل بتشريعه في الإسراء والمعراج يربطه بقضايا إلهيّة قدسيّة ، حيث إنَّ حقيقة الإسراء هي حقيقة عالية ترتبط بالغيب ، وإنَّ أهل بيت الرسالة وبعض الصحابة المتعبّدين كانوا هم المطّلعين بما دار في الإسراء والمعراج ، بعكس بعض قريش التي كانت تنكر حقيقة المسرى وتسخّف مغزاه ، فلم تكن تقبل بأن الرسول الأعظم تجاوز الحجب حتّى وصل إلى دار العظمة ، حاملاً معه مفاهيم ربانية وأفكاراً عالية لا يمكن الوصول إليها إلاَّ بالاستعانة بالقدرة الإلهيّة ، ولا يمكن معرفة دقائقها إلاّ عن أهل بيت الرسالة والوحي ، الذين وضحوا لنا المبهم من هذه الأمور .
   أمّا القائل بتشريعه عن طريق رؤيا رآها عبدالله بن زيد ، أو سبعة آخرون من الصحابة ، فيعطي لفكرته مسحة عدم التوقيف ، ليكون له مساغ في أن يزيد

(1) إرشاد الساري 2 : 3 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 71 ـ
  في هذه الشعيرة المقدسة ، أو ينقص منها .
   قال السرخسي في المبسوط : ( ... بدليل ما روي عن إبراهيم أنَّ : أوّل مَن أفرد الإقامة معاوية .
وقال مجاهد : كانت الإقامة مثنى كالأذان حتّى استخفّه بعض أمراء الجور فأفرده لحاجة لهم ) (1) .
   وقال ابن عبدالبرّ ـ في فتح المالك بتبويب التمهيد على موطّأ مالك ـ وهو يريد أن يصحّح اختلاف أحاديث الأذان بقوله : ( روى عن النبيّ في قصَّة عبدالله بن زيد هذه في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعانٍ متقاربة ، وكلّها تتّفق على أنَّ عبدالله بن زيد أُري النداء في النوم ، وأنَّ رسول الله أمر به عند ذلك ، وكان ذلك أوّل أمر الأذان ... ) (2) .
   فهذا النصّ وما سبقه يتضح منهما أن غالب أهل السنّة والجماعة يقولون بعدم توقيفيّة الأذان بالنحو الذي تقوله الشيعة ، إذ العامة يستدلون على شرعيّة الأذان بمنام عبدالله بن زيد حتّى أنّ بعض أمراء الجور أفرد الإقامة لحاجة له .
   والعجب في هذا الباب ما قاله ابن عبدالبرّ في موضع آخر من الكتاب المذكور : ( في حديث هذا الباب لمالك وغيره من سائر ما أوردنا فيه من الآثار أوضح الدلائل على فضل الرؤيا وأنّها من الوحي والنبوّة ، وحسبك بذلك فضلاً لها وشرفاً ، ولو لم تكن وحياً من الله ما جعلها شريعة ومنهاجاً لدينه ) (3)

(1) المبسوط 1 : 129 كتاب الصلاة باب بدء الأذان ، وانظر : المصنف لعبدالرزّاق 1 : 463/1793 .
(2) فتح المالك 2 : 3 .
(3) فتح المالك 2 : 7 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 72 ـ
   قال أبو عمر (1) : ( اختلفت الآثار في صفة الأذان وإن كانت متّفقة في أصل أمره ، كان من رؤيا عبدالله بن زيد ، وقد رآه عمر بن الخطّاب أيضاً (2) !!! ) .
   أفلا يدل قوله هذا على أنّ لعبدالله بن زيد وعمر بعض النبوّة ؟!!
   كانت هذه صورة مصغّرة عن اختلاف الآراء في مدرسة الخلفاء حول بدء تشريع الأذان ، وكيف اتفقت مدرسة أهل البيت ومعها الصحابة المتعبدون على أنّه كان في الإسراء بتعليم من الله العليّ العظيم .

(1) هو ابن عبدالبرّ .
(2) التمهيد لابن عبدالبر 24 : 27 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 73 ـ
تحقيق في ما وراء نظريّة الرؤيا

   بعد أن توصلنا إلى وجود اختلاف بين المسلمين في كيفيّة تشريع هذه الشعيرة الإسلامية ، وعلمنا أن أهل بيت النبوّة لا يقبلون فكرة الرؤيا ، حاولنا تحديد زمن النزاع بين المسلمين ، والدوافع الكامنة وراء طرح مثل هذه الآراء في الشريعة .
   ممّا لا شك فيه أنّ قدرات المسلمين وأفهامهم وإدراكاتهم لحقيقة الإيمان والإسلام لم تكن بمرتبة واحدة .
   فالبعضُ منهم كان يفهم مغزى الرسالة ومكانة الرسول وما يريده الله من أوامره ونواهيه بدقّة عالية فكان يتعبد بما قاله رسول الله ولا يرى لنفسه الخيرة من أمره .
   والبعض الآخر كان يرى لنفسه حقّ التشريع وإبداء الرأي مسمّياً فعله بالاجتهاد .
   وهناك اتّجاه ثالث أغرق في النزع ، فراح يتعامل مع الرسول كأنّه رجل حارب فانتصر !
   ورابع وخامس و ...
   وقد وضحنا في دراستنا لأسباب ( منع تدوين الحديث ) ونتائجه هذه الاتجاهات وقلنا أنّها جميعاً تنخرط وتنتظم في نهجين هما :
   1 ـ المتعبدون = التعبد المحض .
   2 ـ المجتهدون = الاجتهاد بالرأي .
   ونحن لا نريد أن نعود إلى ما كتبناه سابقاً ، بل نريد الإشارة إلى بعض الشيء

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 74 ـ
  عن هذين النهجين ، مؤكدين الكلية التي رسمناها في دراسة ملابسات التشريع ، مبينين كيفية تطبيقها في مفردة الأذان ، وكيف ارتبطت قضية الأذان بالمنام بعد ثبوتها في الاسراء والمعراج ، وما هو ارتباطها بالرؤيا التي أقلقت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، تلك الرؤيا التي رأى صلى الله عليه وآله وسلم فيها بني أميّة يَنْزُون على منبره الشريف نَزْوَ القردة ؟
   وقد رأينا تقديم شيء من خبر الإسراء والتحريفات الواقعة فيه ، لارتباطه ببيان رؤيتنا بصدد الرؤيا في الأذان ، وهو بيان لدواعي اختلاف المسلمين في بدء الأذان ، فنقول :
   إنّ خبر الإسراء والمعراج ثابت لا كلام فيه ، وقد وردت سورة باسم الإسراء في الذكر الحكيم .
   وقد اختلف المسلمون في يوم الإسراء ومكانه وكيفيّة عروجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء ، وما جرى في الإسراء والمعراج ، وهل أُسري به مرّة أو مرّتين (1) أو أكثر من ذلك (2) ، وهل كان عروجه بروحه وجسده أم بروحه فقط ؟ على أنّ هناك من فصل بين إسرائه ومعراجه ، فقال بأن إسراءَهُ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان بروحه وجسمه ، وأنّ عروجه إلى السماء كان بروحه فقط ؟
   فالذين لا يدركون عمق الرسالة ومكانة الرسول شكّكوا في حقيقة الإسراء والمعراج وقالوا بأشياء لا تتفق مع رسالة الغيب والوحي ، وقد ارتدّ بعض من

(1) انظر : على سبيل المثال تفسير ابن كثير 3 : 22 حيث قال : وقد صرّح بعض من المتأخّرين بأنّه عليه السلام أُسري به مرّة من مكّة إلى بيت المقدس فقط ، ومرّة من مكّة إلىالسماء فقط ، ومرّة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء .
(2) الخصال : 600 ، وانظر : علل الشرائع : 149 .

الأذان بين الإصالة والتحريف ـ 75 ـ
  أَسلَمَ حينما سمع بخبر الإسراء ، وهناك من ثبت على الدين وصَدَّق بما قال الرسول وبما حكاه من مشاهدات ومغيّبات ، كبعض الصحابة المتعبدين المخلصين الذين شهد لهم التاريخ بصدقهم ووفائهم وبقائهم على العهد الذي فارقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه .
   نعم ، قد اختلفت النصوص في مكان الإسراء ، فالبعض منها صرحت بأنّه صلى الله عليه وآله وسلم أسري به من شعب أبي طالب (1) ، والأُخرى من بيت خديجة (2) ، وثالثة من بيت فاختة ( أمّ هاني ) بنت أبي طالب (3) أخت الإمام عليّ ، ورابعة من بيت عائشة (4) .
   ففي تفسير الطبري بإسناده عن أبي صالح بن ياذم ، عن أُمّ هاني بنت أبي طالب في مسرى النبيّ أنّها كانت تقول : ما أُسري برسول الله إلاّ وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة ، فصلّى العشاء الآخرة ثمّ نام ونمنا ، فلما كان قُبيل الفجر أهبَّنا رسول الله ، فلمّا صلّى الصبح وصلّينا معه قال : يا أُمّ هاني ، لقد صلّيتُ معكم العشاء الآخرة كما رأيتِ بهذا الوادي ، ثمّ جئتُ بيت المقدس فصلّيت فيه ، ثمّ صلّيت صلاة الغداة معكم الآن كما تَرَين (5) .

(1) فتح الباري 7 : 160 كتاب أحاديث الأنبياء ، باب المعراج ، الدرّ المنثور 4 : 149سورة الإسراء عن ابن أبي حاتم عن قتادة .
(2) المجموع النووي 9 : 248 باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز ، فرع في مذاهب العلماء في بيع دور مكّة ، شرح الأزهار 1 : 199 .
(3) المغني 10 : 616 كتاب الجزية ، الشرح الكبير 10 : 621 كتاب الجزية ، فتح الباري 7 : 160 ، تحفة الأحوذي 9 : 193 .
(4) الدرّ المنثور 4 : 157 ، 154 سورة الإسراء الآية 1 ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1 : 194 .
(5) تفسير الطبري 15 : 3 سورة بني إسرائيل الآية 1 .