وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : حرمت الجنَّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ، ومَن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبدالمطّلب ، ولم يُجازِه عليها ، فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة
(1) .
وروي أنّ الانصار قالوا : فَعَلنا وفَعَلنا ، كأنّهم افتخروا .
فقال عبّاس ـ أو ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ: لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول الله فأتاهم في مجالسهم ، فقال : يا معشر الأنصار ، ألم تكونوا أذلّة فأعزّكم الله بي ؟
قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : ألم تكونوا ضُلاّلاً فهداكم الله بي ؟
قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : أفلا تجيبوني ؟
قالوا : ما نقول يا رسول الله ؟
قال : ألا تقولون : ألم يخرجك قومك فآويناك ؟ أو لم يكذّبوك فصدّقناك ؟ أو لم يخذلوك فنصرناك ؟
قال : فما زال يقول حتّى جَثَوا على الرُّكَب ، وقالوا : أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله ، فنزلت الآية وقال رسول الله :
من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر ونكير ، ألا ومن مات على
 |
(1) انظر : مسند زيد بن علي : 463 و 466 الباب 4 في فضل الحسنين ( نشر دار الحياة ) وهذا المطلب غير موجود في ما اعتمدناه في تخريج الروايات عن مسند زيد ، فانه ينتهي إلى آخر كتاب الفرائض ، وهو من منشورات دار الكتب العلمية .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 307 ـ
حبّ آل محمّد يُزَفّ إلى الجنَّة كما تُزَف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فُتح له في قبره باباً إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه ( آيس من رحمة الله ) ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يَشمَّ رائحة الجنّة ) ...
(1) .
وقد نقل الرازي كلام الزمخشري في تفسيره معلقاً عليه بقوله :
وروى صاحب الكشّاف أنّه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله ، مَن قرابَتُك هؤلاء الذين وَجَبت علينا مودّتُهم ؟
فقال : علي وفاطمة وابناهما .
فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبي ، وإذا ثَبَت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيدِ التعظيم ، ويدل عليه وجوه :
الأوّل : قوله تعالى : ( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ووجه الاستدلال به ما سبق .
الثاني : لا شكّ أنّ النبي كان يحبّ فاطمة ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : فاطمةُ بضعةُ مِنّي يُؤذيني ما يُؤذيها ، وثبَت بالنقل المتواتر أنّه كان يحبّ عليّاً والحسن والحسين .
وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله ، لقوله ( وَاتَّبِعُوهُ
 |
(1) تفسير الكشاف 3 : 403 ، وفي تفسير القرطبي 16 : 21 ـ 23 في ذيل الآية حكى عن الثعلبي هذه الرواية فذيّله بـ ( ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له من شفاعتي ) .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 308 ـ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ولقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) ولقوله ( تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) ولقوله سبحانه ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .
الثالث : إن الدعاء للآل مَنصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قوله : ( اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد وارحم محمداً وآل محمد ) .
وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل ، فكلّ ذلك يدلّ على أن حبّ آل محمد واجب ، وقال الشافعي رضي الله عنه :
يا راكباً قِف بالُمحصَّبِ مِن iiمِنى واهتف بساكنِ خِيفها iiوالناهضِ سحَراً إذا فاضَ الحجيجُ إلى مِنى فـيضاً كـملْتَطَمِ الفراتِ iiالفائضِ إن كـانَ رَفـضاً حُبُّ آل iiمحمدٍ فليشهد الثّقلأنِ أنّي iiرافضي (1) |
ولو تدبرت في خبر أبي عبيدة عن الإمام الصادق ـ والمروي في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ـ لعرفت مزيّة فاطمة الزهراء على عائشة وعلى غيرها من نساء النبيّ ، قال الصادق عليه السلام : كان رسول الله يكثر تقبيل فاطمة عليها السلام ، فغضبت من ذلك عائشة ، وقالت يا رسول الله : إنك تكثر تقبيل فاطمة! فقال رسول الله :
يا عائشة ، إنه لمّا أسري بي إلى السماء دخلتُ الجنّة فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فأكلته ، فلما هبطت إلى الأرض ، حوّل الله ذلك ماءً في ظهري ، فلمّا هبطتُ إلى الأرض فواقعتُ بخديجة فحملت بفاطمة ، فما قبّلتها قطّ إلاّ وجدت رائحة شجرة طوبى منها
(2) .
 |
(1) التفسير الكبير للرازي 27 : 166 ، وديوان الشافعي :84 .
(2) تفسير عليّ بن إبراهيم كما في نور الثقلين 3 : 131 ، مجمع الزوائد 9 : 202 ، وانظر .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 309 ـ
وحسب هذا دليلاً لمعرفة صحة ما نقول من أنّ مودّتها ميزان للإسلام والإيمان .
وعليه ، فالأجر على الرسالة لابدّ أن يرتبط بأصل الرسالة ، ولا معنى لما يقال من إرادة التودّد العاطفي البحت لذوي القربى ، بل المعنيّ به هو أنّ هذه النخبة الصالحة هي التجسيد الواقعي للدين وصمّام الأمان للرسالة ، وأنّ التودّد إليهم سيعود بالنفع على الناس قبل النفع على القربى ، لأنّها لا تزيد القربى مقاماً ومنزلة إذ منزلتهم محفوظة من عند الله ، فهم مستودع العلم وظرف الرسالة ، وهذا ما صرّح به الذكر الحكيم بقوله ( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) لا ( المودة للقربى ) ، وفي هذا إيماء لطيف إلى أنّهم غير محتاجين إلى مودة الناس ، بل إنّ مودّتهم تؤدّي بالناس إلى الخير والصلاح ، لأنّ التودّد الذي تكون القربى ظرفاً له سيربطهم بالرسالة وصاحبها ارتباطاً وثيقاً ترجع خيراته إلى الناس ، وهو لطف من الله للبشر ، إذ جعل مودّة أهل بيتِ رسولِهِ سبباً لنجاتهم من الهلكة ، وهي من قبيل جعل حب الإمام عليّ وبغضه مقياساً لمعرفة المؤمن من المنافق ، وقد كان المنافقون من الصحابة يُعرَفُون ببغضهم لعليّ بن أبي طالب ، فقد ثبت عن أبي سعيد الخدري قوله :
( إنّا كنّا نعرف المنافقين ـ نحن معاشَر الأنصار ـ ببغضهم عليّ بن أبي طالب )
(1) .
وورد عن عُبادة بن الصامت قوله : كنا نبور أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالب ،
 |
الدّر المنثور 4 : 153 والمستدرك للحاكم 3 : 156 ، والمناقب لابن المغازلي : 357 ، وتاريخ الخميس 1 : 277 .
(1) أُسد الغابة 4 : 30 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 310 ـ
فإذا رأينا أحداً لا يحبّه علمنا أنّه ليس منّا وأنّه لغير رشدة
(1) .
وجاء عن ابن مسعود قوله : ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ ببغضهم عليّ بن أبي طالب
(2) .
إذاً كان عليّ بن أبي طالب محكًّا للأنصار ولغيرهم
(3) ، وهذا بخلاف قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الأنصار ( لا يحبّهم إلاّ مؤمن ولا يبغضهم إلاّ منافق )
(4) .
ففي النص الأوّل كان شخص عليّ بن أبي طالب هو المعيار لمعرفة المؤمن من المنافق ، بخلاف الأنصار الذين يرجع حبّهم إلى ما فعلوه من نصرتهم لنشر الدين الإسلامي والسعي في إيواء المسلمين وقيامهم في مهمات الدين .
قال النووي في شرح مسلم ( إنّ من عرف مرتبة الأنصار ... وعرف من عليّ ابن أبي طالب قربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحبّ النبيّ له ، وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه ثمّ أحب الأنصار وعليّاً لهذا ، كان ذلك من دلائل صحّة إيمانه وصدقه في إسلامه ، لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله ... )
(5) .
وكلام النووي كما تراه فيه غفلة عن الفرق الشاسع بين الأمر بحب عليّ عليه السلام
 |
(1) الغريبين للهروي 1 : 222 مادة ( بور ) ، ذكر اول الحديث ، تاج العروس 3 : 61
(2) الدر المنثور 6 : 66 .
(3) ومن هنا أنشأت عائشة تقول في حق علي عليه السلام :
إذا ما التِّبر حُكّ على iiمحكٍّ تـبيّن غـشّه من غير شكِّ وفينا التبر والذهب المصفّى عـليّ بـيننا شـبه iiالمَحكِّ |
الكنز المدفون للسيوطي : 68 .
(4) صحيح مسلم 1 : 85 ح 129 كتاب الايمان .
(5) شرح مسلم 1 ـ 2 : 423 ـ 424 ، كتاب الايمان / باب 33 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 311 ـ
والأمر بحب الانصار ، لأنّ حبّ عليّ عليه السلام مطلوب بذاته ، بخلاف حبّ الانصار فإنّه مطلوب لسوابقهم ، ويؤكد ذلك أنّ في الأنصار منافقين ومنحرفين وأصحاب ارتباطات باليهود ـ وإن كانت غالبيّتهم من أنصار الإمام عليّ عليه السلام ومخالفين لقريش ـ فلا يعقل أن يكون حبّهم جميعاً لذواتهم ، وإنّما كان الحب لهم كمجموعة لها مواقف محمودة .
ومثل الإمام عليّ كانت الصدّيقة فاطمة الزهراء ، إذ علّق الباري عزّ وجلّ رضاه وغضبه على رضاها وغضبها ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنَّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك )
(1) ، فصار رضى فاطمة معياراً لرضى الله ، وهو دليل على نزاهتها المطلقة وعصمتها وطهارتها التامّة من كلّ ما يشين ، إذ لا يعقل تعلق رضى الله برضى إنسان غير معصوم .
ولا يفوتنك ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي ذر الغفاري ، قال : قال رسول الله : ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع علياً فقد أطاعني ، ومن عصى علياً فقد عصاني ) .
وقال : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه
(2) .
وفي هذا الحديث دلالة على كمال الإمام عليّ وعصمته ، لأنا نعلم أن رسول الله لا يداهن ولا يجامل ولا يبالغ ، وبذلك يكون معنى الحديث أن إرادة الإمام عليّ منبعثة من إرادة الله ولا يمكن أن تتخلف عن إرادته جل وعلا ، وكراهته منبعثة عن كراهة الله ، ولا يمكن أن تتخلف إحداهما عن الأُخرى ، إذ لو أمكن التخلّف لكان قوله ( من أطاعه فقد اطاع الله ) غلطاً ، ولكان قوله : ( من عصاه
 |
(1) المعجم الكبير 1 : 108 و 22 : 401 ، مجمع الزوائد 9 : 203 ، مستدرك الحاكم3 : 154 ، الإصابة 8 : 266 .
(2) المستدرك على الصحيحين 3 : 121 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 312 ـ
فقد عصى الله ) باطلاً ، معاذ الله
(1) ، حيث إن طاعة الرسول هي طاعة لله ، وعصيانه هو عصيان لله ، فيكون من أطاع علياً فقد أطاع الله ورسوله ، ومن عصاه فقد عصى الله ورسوله ..
وهكذا الحال بالنسبة إلى الإمامين الحسن والحسين ، فهما إمامان قاما أو قعدا ، وسيّدا شباب أهل الجنّة ، فهؤلاء هم القربى المعنيّون في آية المودّة .
وعلى هذا فالدعوة إلى المودّة في القربى ونقل فضائلهم هي مقدِّمة إلى لزوم الأخذ بنهجهم والاهتداء بهداهم ، لتعلّق أجر الرسالة بها ، بل هو تعبير آخر عمّا جاء في حديث الثقلين ( ما إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ) لانّ مفهوم السنّة لغة : هو الطريق ، والصراط ، والجادّة ، واصطلاحاً : هو اتّباع الرسول قولاً وفعلاً وتقريراً .
وقد أرشَدَنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى لزوم اتّباع العترة ، فيكون الابتعادُ عن هؤلاء ابتعاداً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، وهو عين الضلالة والهلكة ، لأنّه لا هدى إلاّ بالقرآن والنبيّ والعترة ، فعلي مع القرآن ، والقرآن مع عليّ ( لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض )
(2) .
ولو تأمّلت في هذه العبارة لعرفت مكانة الإمام عليّ ولرأيته في رتبة المعيّة مع القرآن ، وهي نسبة تقوم بطرفين ، ويستحيل أن تقوم بطرف واحد ، وعندما قال النبيّ : ( عليّ مع القرآن ) ، فقد أثبتها ، فلماذا أعاد إثباتها بصيغة أخرى ، فقال : ( والقرآن مع عليّ ) ؟
حاشا أفصح مَن نطق بالضاد مِن اللغو في كلامه ، وحاشا أفصح من نطق
 |
(1) الحق المبين : 79 للمرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني .
(2) المستدرك 3 : 124 قال : صحيح ولم يخرجاه ، الجامع الصغير 2 : 177 ، كنز العمال 11 : 603 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 313 ـ
بالضاد من التكرار في كلامه ، [ دون معنى متوخّى ، فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم ] أراد أن يُفهمنا أن مسألة معيّتهما [ هي ] معيّة من نوعٍ خاص ، ويشير إلى أبعادها العميقة ، ذلك أن المعيّة بين شيئين أو أكثر ، عندما تطلق ، فيقال : زيد مع عمرو ، فهي أعمّ من أن يكون هذا الطرف في الإضافة متقدّماً رتبة على ذاك أو متأخّراً عنه ، بل تدلّ على أنهما معاً بقطع النظر عن رتبة كلّ منهما .
وربما كان فيها إشارة إلى أنّ المَقْرون أقلّ رتبةً من المقرون به ، لهذا أعاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صياغة هذه المعية ، ليقول للمفكّرين : لا ينبغي أن تفهموا من قولي : ( عليّ مع القرآن ) أن عليّاً أقلّ رتبة من القرآن ، بل القرآن مع عليّ أيضاً ، فهما وجودان متعادلان )
(1) ، ويؤيّد هذا الاستنتاج ما جاء عن النبيّ : ( عليّ مني وأنا من عليّ )
(2) ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ : ( أنت مني وأنا منك
(3) .
ولو جمعنا آية المودة ، مع آية التطهير ، مع حديث الثقلين ، وما جاء في أهل الكساء ، وقوله : لا يزال الدين عزيزاً حتّى يكون منهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش
(4) ، وقوله : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية
(5) ، وغيرها من الآيات والروايات ، لعرفنا دلالة هذه النصوص على الولاية التي هي بمعنى الإمامة ، لا بمعنى الصاحب والمُحبّ ، وما شابه ذلك من المفاهيم التي تطرحها
 |
(1) الحقّ المبين : 105 للمرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني .
(2) سنن الترمذي 5 : 300 ح 3803 ، مصنف بن أبي شيبة 7 : 504 ح 58 ، سنن ابن ماجة 1 : 44 ح 119 .
(3) صحيح البخاري 3 ـ 4 : 363 ـ 364 كتاب الصلح / باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان ...
(4) صحيح مسلم 6 : 4 كتاب الامارة ، سنن بي داود 4 : 106 ح 4280 .
(5) وسائل الشيعة 16 : 246 كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 314 ـ
مدرسة الخلفاء ونهج الاجتهاد والرأي .
عرفنا إذاً أنّ الخطاب في آية المودّة هو لعموم المسلمين الذين آمنوا برسالة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، لا لخصوص المشركين من قريش حسبما قاله البعض ، لكون الآية مدنية وإن كانت السورة مكية ، فلا يُعقل أن يخاطب الرسول أعداءه من المشركين ويطلب منهم أجراً على رسالته .
وكذا لا يصحّ ما قاله البعض الآخر : من أنّ الآية تشير إلى معنى تودّد المسلمين في التقرّب إلى الله ، ومعنى كلامهم هذا أنّ القربى استعملت بمعنى مطلق التقرّب ، وهذا باطل لغوياً حيث لم يرد هذا المعنى في المعاجم .
ويضاف إليه : كيف يمكن للرسول أن يوقف أجر رسالته على نفسها ، لأنّ المسلم وباتّباعه الرسالة يحصل له القرب إلى الله ، فلا معنى للتودّد والإلحاح في القرب إليه ، لأنّه توقيف الشيء على نفسه ، وإن كان كذلك فلا يكون أجر الرسالة بل هو نتيجة الرسالة .
هذا ، وإنّك لو طالعت التاريخ الإسلامي لعرفت أنّ مفهوم القربى كان في الصدر الأوّل يطلق على عليّ وفاطمة والحسنين ، ثمّ أطلقت على أبنائهم المعصومين لاحقاً .
روى الحاكم النيسابوري في المستدرك عن الإمام الحسن قوله : وانا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كلّ مسلم فقال تبارك وتعالى ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت
(1) .
وقال أبو إسحاق السبيعي : سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) فقال : قربى النبيّ ، رواهما ابن
 |
(1) المستدرك على الصحيحين 3 : 173 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 315 ـ
جرير الطبري
(1) .
وعن ابن عبّاس أنّه قال : لما نزلت هذه الآية ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودّتهم ؟ قال : فاطمة وولدها عليهم السلام
(2) .
وثبت عن عليّ بن الحسين أنّه قال للشامي رداً على تنكيل الشامي به : أما قرأت كتاب الله عزّ وجلّ ؟
قال الشامي : نعم .
فقال عليّ بن الحسين : أما قرأتَ هذه الآية ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) .
قال : بلى .
فقال له عليّ بن الحسين عليه السلام : فنحن أولئك ، فهل تجد لنا في سورة بني إسرائيل حقاً خاصّة دون المسلمين ؟
فقال : لا .
فقال عليّ بن الحسين : أما قرات هذه الآية ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ؟
قال : نعم .
قال عليّ بن الحسين : فنحن أولئك الذين أمر الله عزّ وجلّ نبيه أن يؤتيهم حقهم .
فقال الشامي : إنكم لأَنتم هُم ؟
فقال عليّ بن الحسين : نعم ، فهل قرأت هذه الآية ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) .
 |
(1) تفسير ابن كثير 4 : 113 سورة الشورى .
(2) تفسير ابن أبي حاكم 10 ص 3277 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 316 ـ
فقال الشامي : بلى .
فقال عليّ بن الحسين : فنحن ذوو القربى ، فهل تجد لنا في سورة الأحزاب حقّاً خاصّة دون المسلمين ؟
فقال : لا .
قال عليّ بن الحسين : أما قرأت هذه الآية ( انما يريد اللهُ ليُذهِبَ عَنكُمُ الرَّجسَ أهلَ البيتِ ويطهّركم تَطهيرا ) .
قال : فرفع الشامي يده إلى السماء ثمّ قال : اللّهمّ إنيّ أتوب إليك ـ ثلاث مرات ـ اللّهمّ إني أتوب إليك من عداوة آل محمّد ، وأبرأ إليك ممن قتل أهل بيت محمّد ، ولقد قرأت القرآن منذ دهر فما شعرتُ بها قبل اليوم
(1) .
وهذا النص يؤكّد لنا وضوح دلالة هذه الآيات المباركة ، حيث إن الشيخ الشامي فهم معانيها بأدنى تأمّل ، وبمجرّد إيضاح الإمام السجّاد عليه السلام له المراد من هذه الآيات .
هذا من جهة ، ومن جهة ثانية يبين هذا النص مدى التعتيم الإعلامي الأموي على أهل البيت ، وتحريفات السلطة لمعاني هذه الآيات المباركة ، ولذلك كأنّ الشيخ الشامي من قبل لم يشعر بها وبمعانيها .
ولم يعرف المصداق الأكمل لها في زمانه .
ومثله روى حكيم بن جبير ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : كنت أجالس أشياخاً لنا إذ مر علينا عليّ بن الحسين وقد كان بينه وبين أناس من قريش منازعة في امرأة تزوّجها منهم لم يرض منكحها ، فقال أشياخ الأنصار : ألا دعوتنا أمس لما كان بينك وبين بني فلان ، إنّ أشياخنا حدّثونا أنّهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا محمّد ، ألا نخرج إليك من ديارنا ومن أموالنا لِمَا أعطانا الله بك وفضّلنا بك وأكرمنا بك ؟ فأنزل الله تعالى ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا
 |
(1) الاحتجاج : 307 ، وتفسير ابن كثير 4 : 122 سورة الشورى .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 317 ـ
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ونحن ندلكم على الناس ، أخرجه ابن منده
(1) .
وجاء في الكافي في حديث طويل عن الباقر ( ع ) فيه قوله : ( قل ما سألتكم عليه من أجر فهو لكم ) يقول : أجر المودة الذي لم اسألكم غيره فهو لكم تهتدون به وتنجون به من عذاب يوم القيامة ، وقال لاعداء الله ، اولياء الشيطان أهل التكذيب والانكار : ( قل ما اسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين
(2) .
وبعد هذا فلنا أن نحتمل أنّ الله تعالى قد ألمح في قوله ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )
(3) ، إلى ما تُلاقيه هذه المجموعة الصالحة من قربى الرسول من أمّته بعده .
فعن خالد بن عرفطة ، قال : قال رسول الله : إنكم ستُبتَلَون في أهل بيتي من بعدي
(4) .
وقال الإمام الباقر : بَليةُ الناس علينا عظيمة ، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا
(5) .
وجاء عن إبراهيم النظّام قوله : عليّ بن أبي طالب محنة على المتكلم ، إن وفى حقَّه غلا ، وإن بخسه حقّه أساء ، والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن حادة الشأن صعبة الترقي إلاّ على الحاذق الدين
(6) .
وقال الشعبي : ما ندري ما نصنع بعليّ ، إن أحببناه افتقرنا ، وإن أبغضناه كفرنا
(7) .
واشتهر عن محمّد بن إدريس الشافعي قوله : ماذا أقول في رجل أخفت أصدقاؤه فضائله خوفاً ، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً ، وشاع لهُ من بين ذَين ما
 |
(1) الكافي 8 : 379 | ح 574 ، البرهان 7 : 79 .
(2) اُسد الغابة 5 : 367 .
(3) سورة الشورى الآية :23 .
(4) كنز العمال 11 : 124/30877 .
(5) الارشاد 2 : 167 ، مناقب آل أبي طالب 4 : 206 ، بحار الأنوار 46 : 288 ح 11 عن الارشاد .
(6) مناقب آل أبي طالب 3 : 215 باب في حساده .
(7) المناقب للخوارزمي : 350 الفصل 19 وعنه في بحار الأنوار 29 : 481 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 318 ـ
ملأ الخافقين
(1) .
من هذا يتبيّن لنا أنّ آية المودة هي معنىً آخر لقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )
(2) والأخيرة صريحة في نزولها في حجة الوداع ويوم غدير خُمّ .
ولا يصحّ ما قالوه من أنّها نزلت في أوّل البعثة لمّا خاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التبليغ ، فهدّده الله وطمأنه .
أو ما قالوه من أنّها نزلت في مكّة قبل الهجرة فاستغنى بها النبيّ عن حراسة عمّه أبي طالب .
أو ما قالوه من نزولها في المدينة في السنة الثانية للهجرة بعد غزوة أحد .
لأن القول الأوّل يكذّبه كون السورة مدنية ، فلا يعقل أن يأتي خبرٌ كان في أوّل البعثة في آخر سورة من القرآن ، ولو صحّ ذلك القول وما يليه وأنّ الله كان قد عصم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فما معنى صلاة الخوف وما فعله صلى الله عليه وآله وسلم مع الأعداء في السنوات الأخيرة من حياته الشريفة ؟
وأكثر من ذلك ، هو أنّ الرسول لو كان قد حُمِيَ هذه الحماية في بدء الدعوة واسـتغنى عن حماية أبي طالب ، فما معنى تلك النصوص الصـادرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم إلى القـبائل والتي يطـلـب منهـم أن يحمـوه ؟ بـل مـا معـنى هـجرتـه من مكّة إلى المـدينة المـنوّرة ؟
 |
(1) حلية الابرار 2 : 136 ( للبحراني ) ، مشارق أنوار اليقين للبرسي : 171 ، وقيل هي للخليل بن أحمد اللغوي الشهير كما جاء في ملحقات السيّد المرعشي على إحقاق الحق 3 : 406 ، 4 : 2 ، وقد نسب العلاّمة الحليّ هذه المقولة لأحد الفضلاء دون ذكر اسمه انظر : كشف اليقين :4 .
(2) المائدة : 67 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 319 ـ
فالآية صريحة في نزولها في آخر حياته الشريفة ، وبعد حجة الوداع ، إذ لو كانت في بدء الدعوة فلا معنى لعبارة ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) إذ لم ينزل إليه إلاّ الشيء اليسير ، وهذه الجملة تدلّ على الماضي الحقيقي وهو يتطابق مع نزولها في آخر حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، وخصوصاً حينما نرى توقّف أمر الرسالة عليه ( بلّغ ما أنزِلَ إليكَ من رَبِّكَ وإن لم تَفَعلْ فما بَلَّغت رسالَتَه ) !
وعليه فالآيتان ـ آية التبليغ وآية المودّة ـ دالتان على شيء واحد مرتبط بأجر الرسالة وتبليغها ، وهما أمران مَولَويّان من الباري جل شانه ( قل لا أسألكم أجراً إلاّ المودة في القربى ) و ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) ، وكلاهما يرتبط بأمر الولاية والخلافة الإلهية ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يخاف من رجوع أمّته القهقرى ـ وهي كائنة لا محالة ـ وذلك لاجتماع قريش على العصبية والقبلية وسعيهم لإبعاد الإمام عليّ عن الخلافة وإمرة المؤمنين ، لأنّه وَتَر قريشاً وكَسَر شوكتها وعظمتها .
على أنّك لو تأمّلت كلمات الأنبياء عليهم السلام قبل النبيّ محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لرأيتهم يوقفون أجرهم على الله ، ففي سورة الشعراء حكاية عن قول نوح وهود وصالح ولوط وشعيب قولهم ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ )
(1) .
وقوله ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ )
(2) .
وقوله ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ
 |
(1) الشعراء : 109 .
(2) الشعراء : 127 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 320 ـ
وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين)
(1) .
وقوله ( إذ قال لهم أخوهم لوطٌ ألا تتّقون ، إنّي لكم رسولٌ أمين ، فاتّقوا الله وأطيعون ، وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجري إلاّ على ربّ العالمين )
(2) .
وقوله ( إذ قال لهم شُعَيبٌ ألا تَتَّقون ، إنّي لكم رسولٌ أمين ، فاتَّقوا اللهَ وأطيعونِ ، وما أسالُكم عليه من أجرٍ إن أجريَ إلاّ على ربِّ العالَمين )
(3) .
وهكذا نجد أنّ كلمات هؤلاء الأنبياء الكرام عليهم السلام كانت واحدة متطابقة تعبّر عن معنىً واحد محدّد معلوم ، هو أنّهم لم يطلبوا من الناس أجراً على الرسالة ، وإنّما أجرهم ( على ربّ العالمين ) .
أما الرسول المصطفى فيقول ( قل لا أسئلكم عليهِ من أجرٍ إنْ هو إلاّ ذِكرٌ للعالَمين )
(4) وقال تعالى ( وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ )
(5) .
وقال على لسان نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم : ( قل ما أسئلكُم عليه من أجرٍ إلاّ من شاء أن يَتَّخذَ إلى ربّه سبيلاً )
(6) فما يعني ذلك ، وعلى أيّ شيء يدل ؟
إن المقدمة السابقة قد تكون وضحت جواب هذا الأمر ، خصوصاً بعدما عرفت أنّ رسالة المصطفى هي الرسالة الخاتمة ، فلا يمكن إبقاء هذه الرسالة إِلاَّ بـ ( ذكر للعالمين ) و ( من شاء أن يتّخذ إلى ربه سبيلا ) وهما القرآن والعترة ، وذلك لوجود نصوص كثيرة تشير إلى أنّ أهل البيت هم ( الذكر ) و ( السبيل )
 |
(1) الشعراء : 145 .
(2) الشعراء : 164 .
(3) الشعراء : 180 .
(4) الانعام : 90 .
(5) يوسف : 104 .
(6) الفرقان : 57 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 321 ـ
إلى الله ، وهو ما اصطلح عليه في كلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالثقلين ، فيصير معنى الآية وكلام النبيّ لزوم اتّخاذ السبيل إلى الله وهم القربى ، وأنّ اتّخاذ هذا السبيل سيعود نفعه على الناس ، ( عليكم ) .
أمّا أجر رسول الله فهو على الله لقوله سبحانه في سورة سبا ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلاّ على الله وهو على كل شيء شهيد )
(1) .
ومعنى الآية : أني قمت بواجبي ، وأدّيت ما علَيَّ ، ولاأسألكم عليه من أجر بعد المودّة إن أجري إلاّ على الله ، لكن لو أردتم الانتفاع من هذه الرسالة والنجاة فاتصلوا بالسبب الممدود بين الأرض والسماء وهو القرآن والعترة .
وبهذا فلا تنافٍ بين قوله ( لا أسئلكم عليه من اجر إلاّ المودة في القربى ) وبين قوله ( قل ما سألتكم من اجر فهو لكم إن اجري إلاّ على الله )
(2) .
إنّ هذا لَيقترب بنا من فهم المعنى العميق لـ ( حيّ على خير العمل ) الذي نصّ عليه أهل البيت عليهم السلام الذين هم أعلم الناس بدين الله بما فازوا به من تطهير الله تعالى إيّاهم تطهيراً شاملاً ، في المعرفة والمعتقد ، وفي المواقف والعمل .
وهذا المعنى الذي يتضمنه ( حيّ على خير العمل ) هو الولاية أو برّ فاطمة وولدها أو ما شابه ذلك ، لما اتّضح لك في الصفحات السابقة من أنّ الأذان هو بيان لاُصول العقيدة ، ولمّا كانت الولاية امتداداً للرسالة فلا غرابة في أن تكون أجر الرسالة ، خصوصاً مع ما نعرف من تأكيدات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أهل بيته وقرباه المنتجبين .
لقد أكّد رسول الله على العترة بدءًا من ( وأنذر عشيرتَك الأقربين )
(3) .
 |
(1) سبأ : 47 .
(2) للإمام الباقر توضح بهذا الصدد انظر : روضة الكافي 8 : 379 .
(3) الشعراء : 214 ، وانظر : في تفسيرها كتب التفاسير والتواريخ اخبار أول البعثة .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 322 ـ
ومروراً بحجة الوداع التي خطب فيها رسول الله خمس مرات ، وختماً بالكتاب الذي منعوه من كتابته في آخر حياته الشريفة .
قال الحلبي في سيرته : ( خطب النبيّ خمس خطب : الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة ، والثانية يوم عرفة ، والثالثة يوم النحر ، والرابعة يوم القرّ بمنى ، والخامسة يوم النَّفر الأوّل بمنى )
(1) .
وقد روى مسلم وأحمد وغيرهما ـ خطبته صلى الله عليه وآله وسلم عند مرجعه من حجة الوداع إلى المدينة ـ عن زيد بن أرقم ، قال : قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً خطيباً بماء يُدعى خُمّاً بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكّر ، ثمّ قال : ألا أيّها الناس ، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب الله منه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغّب فيه ، ثمّ قال : وأهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي ، أذكّركم في أهل بيتي .
فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟
قال : نساؤه من أهل بيته ؟! ولكنّ أهل بيته من حرم الصدقة بعده .
قال : ومن هم ؟
قال : هم آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس .
قال : كلّ هؤلاء حرم الصدقة ؟
قال : نعم
(2) .
وعن أبي هريرة : من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خُمّ لما أخذ النبيّ بيد عليّ بن أبي طالب فقال :
 |
(1) السيرة الحلبية 3 : 333 .
(2) صحيح مسلم 7 : 122 ، مسند أحمد 4 : 367 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 323 ـ
ألستُ وليَّ المؤمنين ؟
قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : من كنتُ مولاه فعليّ مولاه .
فقال عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم! فأنزل الله عزّ وجلّ ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا )
(1) .
عَود على بدء
كانت هذه مقدمة أتينا بها كي نوضّح وجه أفضلية الولاية على العبادات الأربع الأخرى ، إذ الصلاة تتركها الحائض ، والصوم يتركه المريض ، والزكاة والحج ساقطان عن الفقير ، أمّا الولاية فهي واجبة على الصحيح والمريض والغني والمعسر ، لأنّها مفتاحهنّ ، وبأهل البيت تُعرف الأحكام ، وتُقبل العبادات ، ويُعبد الله ، فهم باب الله الذي منه يُؤتى ( وبالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ، وتوفير الفيء والصدقات ، وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف )
(2) لأنّه الضمان الإلهي للشريعة ، ونحن نعلم بأن الشريعة مرت بمرحلتين :
1 ـ التأسيس على يد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
2 ـ الصيانة من الانحراف ، وهو دور الأئمة المفترضي الطاعة ، وهو ما كان يؤكّد عليه الرسول للأمة ، يحذّرها من الابتعاد عنهم لان ذلك سيؤدّي بهم إلى الضلال .
 |
(1) تاريخ دمشق 42 : 233 ، الدر المنثور 2 : 259 ، تاريخ بغداد 8 : 290 .
(2) انظر : الكافي 1 : 224 ، اكمال الدين وتمام النعمة : 677 ، معاني الأخبار : 97 .
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 324 ـ
وقد كان النهج الحاكم في تعارض مع هذه الصفوة الطاهرة ، فما من الصفوة إلاّ مقتول أو مسموم ، وقد ثبت في علم السياسة والاجتماع أنّ جميع الثورات الفكرية ، إذا مات زعماؤها ، وتولّى إدارتها غير الأكفاء انحرفت عن مسارها الذي اختطّه لها صاحبها ، أمّا إذا واصل المسيرة الأكفاء الذين يختارهم صاحب الثورة والتغيير ، فإنها تبقى حيّة نابضة ، ولا تنحرف عن منهاجها الأصلي ، هذا عن القسم الأوّل من السؤال .
أمّا ارتباط برّ فاطمة وولدها بالأذان والصلاة ـ كما في بعض الروايات ـ
(1) فهو معنى تفسيري للجملة ، ومن قبيل بيان المعاني المشكلة والمتشابهة أو الخفية والمجملة في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، فالإمام قد يكون أراد بتوضيحه ذلك بيان ما هو المقصود في العلم الالهي ، وبيان ما حدث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عقوقٍ لفاطمة ، فبعد إقصاء عليّ عليه السلام عن الخلافة ـ أي ترك الولاية التي هي خير العمل ـ عقّوا فاطمة فغصبوا منها فدكاً
(2) ، وروّعوها ، وهددوها بحرق دارها
(3) حتّى ماتت غاضبة عليهما
(4) ، كما عقّوا ولدها
 |
(1) كرواية معاني الاخبار : 42 ، وعلل الشرائع 2 : 256 .
(2) انظر : شرح نهج البلاغة 16 : 209 ـ 253 و 17 : 216 ، الاحتجاج 1 : 267 ،الاختصاص : 183 .
(3) جاء في تاريخ الطبري 3 : 202 بسند معتبر ، قال : أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين ، فقال : والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة .
وقد كانت فاطمة في البيت ، فقالوا لعمر : إنّ في البيت فاطمة ! قال : وإنْ ( انظر الإمامة والسياسة 1 : 12 ، اعلام النساء 4 : 114 ) .
(4) جاء في صحيح البخاري 2 : 504 كتاب الخمس باب 837 باب فرض الخمس ح1265 بسنده عن أم المؤمنين عائشة أنّها اخبرته : أن فاطمة عليها السلام ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألت ابا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله
|
الأذان بين الإصالة والتحريف
ـ 325 ـ
فمضوا مسمومين مقتولين مشرّدين .
ولو تمسك القوم بالولاية التي هي خير العمل لبَرّوا فاطمة وولدها ، ولما خرجت الخلافة من أهلها ، ومن هنا نعلم أن تفسير الحيعلة الثالثة تارة بالولاية ، وأخرى ببرّ فاطمة وولدها ، إنّما هما وجهان لعملة واحدة ، وعبارتان تدلان على معنى مشترك واحد ، وهو أنّ محمّداً وعليّاً واولادهم المعصومين هم خير البرية .
ولعل القارئ الكريم قد وقف على جذور هذا الأصل الديني من القرآن والعترة فيما وضّحناه سابقاً في البحوث التمهيدية ، من أنّ تشريع الأذان سماويٌّ ، وهو يحمل في طياته سمات معنوية وأسراراً عالية ، وأنّه بيان لأصول العقيدة وكليّات الإسلام ، لأنّ الأذان ليس إعلاماً لوقت الصلاة فقط ، بل إنّ آثاره تجري في عدة أمور ، فهو بيان لما ابتنى عليه الدين الإسلامي من التوحيد والنبوة ـ والإمامة في نظر الإمامية ـ .
إنْ إكمال الدين وإتمام النعمة لا يكون إلاّ بإمامة عليّ وولده ، وهذا ما دلّلت عليه الكتب الكلامية ، ودلّت عليه الآيات الكريمة التي منها آية التطهير وآية الولاية ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ ... ) وآية المباهلة ، وسورة الدهر ، وغيرها من عشرات الآيات والأحاديث ـ إن لم نقل المئات ـ دالّة عليه ، وهذا ما يجب أن يعتقد به كلّ مسلم ، إذ عرفتَ أنْ لا صلاة كاملة ومقبولة إلاّ بولايتهم .
إنّ عبارة ( حيّ على خير العمل ) الدالة على الإمامة هي جزء من الأذان ، لما تظافرت به روايات الإمامية الاثني عشرية ، والزيدية ، والإسماعيلية ، ولوجودها حتّى في مصادر أهل السنّة ، وقد أذّن بها كبار الصحابة ، وحكي عن
 |
ممّا أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إن رسول الله قال : لا نورث ما تركنا صدقة ، فغضبت فاطمة بنت رسول الله ، فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت ، وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر .
|