فيما نذكره من الاداب في لبس المداس أو النعل أو السيف ، والعدة عند الأسفار، وفيه فصول :
   إعلم : أننا نذكر لكل شيء من هذه الآلات ما نختاره من الآداب في
الروايات .

الفصل الأول :
   فيما نذكره مما يختص بالنعل والخف .
  فمن ذلك ما رواه الطبرسي في كتاب ( الآداب الدينية) فقال : وإذا أردت لبس الخف أو النعل ، فالبسهما جالساً، وابدأ باليمين وقل : بسم الله ، اللهم صل على محمد وآل محمد، ووطئ قدمي في الدنيا والآخرة، وثبتهما على الصراط يوم تزل فيه الأقدام .
   وإذا أردت خلع النعل أو الخف ، فابدأ باليسار وقل : بسم الله ، الحمدلله الذي رزقني ما أوقي به قدمي من الأذى، اللهم ثبتهما على صراطك ، ولا تزلهما عن صراطك السوي (1).
   قال : ويستحب لبس النعل البيضاء والصفراء، ويكره لبس النعل السوداء، وروي في ذلك عدة روايات .

الفصل الثاني :
   في صحبة السيف في السفر، وما يتعلق به من العوذة الدافعة للخطر .
   إعلم : أن القران الشريف يتضمن ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ )(2)والأحاديث كثيرة في صحبة النبي صلى الله عليه واله السيف ، وحمله له صلوات الله عليه واله ، وأما لبس السيف ، فإن العادة أنه يكون نصله عن اليسار، بحيث إذا احتاج الانسان إلى سله يأخذه باليمين ، من غير التفات ولا مشقة عند الضرورات .
   وقد يكون الإنسان قوته باليد اليسار، فيحتاج أن

--------------------------------
(1) الاداب الدينية : 5 .
(2) الأنفا ل 8 : 60 .

الأمـــــان من اخطار الأسفار والازمان _ 64 _

  يلبسه على يمينه ، ليكون أمكن له عند سله ، فهذا أمر يتعلق بمصلحة حامله في الأسفار في دفع الاخطار .
   وأما العوذة التي تشد على السيف ، فنذكر بعض ما رأيناه من العوذ والدعوات، فإنها كثيرة في الروايات ، فمن ذلك عوذة روي أنها وجدت في قائم سيف مولانا علي بن أبي طالب _ صلوات الله عليه _ وكانت في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وهي :
بسم الله الرحمن الرحيم

  يا الله يا الله يا لله ، أسألك يا ملك الملوك الأول القديم الأبدي الذي لا يزول ولا يحول ، أنت الله العظيم الكافي كل شيء المحيط بكل شيء، اللهم اكفني باسمك الأعظم الأجل الواحد الاحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد.
   حجبت عني شرورهم وشرورالأعداء كلهم وسيوفهم وبأسهم ، والله من ورائهم محيط ، اللهم احجب عني شر من أرادني بسوء، بحجابك الذي احتجبت به فلم ينظرإليه أحد، من شر فسقة الجن والإنس ، ومن شرسلاحهم ، ومن الحديد، ومن كل مايتخوف ويحذر ، ومن شركل شدة وبلية ، ومن شر ما أنت به أعلم وعليه أقدر، إنك على كل شيء قدير ، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم تسليماً .

الفصل الثالث :
   فيما نذكره من القوس والنشاب ، ومن ابتدأه ، وما يقصد بحمله من رضى سلطان الحساب .
   وجدت في كتاب (الرمي بالنشاب) وهوكتاب عتيق لم يذكراسم مصنفه ، فذكرأنه أول ما ابتدأ بالرمي على عهد سليمان بن داود عليه السلام ، فقال : إنه سأل ربه أن يرزقه من الحيلة مايقتل به عدوه من الجن والإنس ، من غير ان يروه (1) ويخالطوه ، فألهمه الله صنعة القوس والنشاب .
   قال مصنف كتاب (الرمي ): فلم تزل الملوك من بعده يرمون بنشابة واحدة ، حتى كان على عهد (كيخسرو بن سياوش (2))ملك الأقاليم ، وكان موحداً عظيم الهيبة، سديد الرأي في نكاية العدو، وكان له قائد يقال له : بسطام بن كردم صاحب ثغر ناحية

--------------------------------
(1) في ( ش): يقربوه .
(2) في ( ش): كيكاوس .

الأمـــــان من اخطار الأسفار والازمان _ 65 _

  أرمينية وأذربيجان ، وكان مسلحته يومئذ وخزائن سلاحه مدينة همدان ، وكان لبسطام إذ ذاك أب يقال له : كردم ، من قدماء فرسانهم ، وأهل العلم والخير والتجارب بالحرب منهم ، وكان له أربعة عشر ولداً مع بسطام ، فلما رأى غلبة الملوك على البلاد ، وإضرارهم بولده وأصحابه ومسالحه (1)، طلب الحيلة في الظفر بالملوك .
   أقول : ثم شرح كيف استخرج الرمي في دفعة واحدة بقوس واحد بنشاب جماعة عن يمين وشمال ، وذكرما أنعم به الملك كيخسرو على بسطام من الإنعام ، وكيف علم الجند ذلك الرمي، وأزال الملوك عن البلاد .
   وقد ذكرمحمد بن صالح _ مولى جعفر بن سليمان _ في كتاب (نسب الخيل) في حديث عن ابن عباس ، ماهذا لفظه قال : فلما شب إسماعيل أعطاه الله القوس فرمى عنها(2)، وكان لا يرمي شيئا إلا أصابه .
   وقال الحميري في الجزء الأول من (الدلائل): إن أول من اتخذ القسي والنشاب الملك منوشهر. ورواه عن النبي صلى الله عليه وآله .
   قلت : وأنا أعلم أنه ينبغي اتخاذ هذا القوس والنشاب للأمر الذي أراده سليمان بن داود عليه السلام ، ليدفع به العدو بحسب رضى رب الأرباب ، فإنه إذا فعل الرامي ذلك بالله ولله وفي الله ، كان على منهاج صاحب النبوة صلوات الله عليه وآله في يوم بدر ، لما رماهم بالحصى بقوة مالك الأسباب ، فذلت صعاب الرقاب ، فقال الله جل جلاله : (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى)(3)وقد ذكرعلي بن إبراهيم بن هاشم في كتاب ( المبعث وغزوات النبي ) صلى الله عليه وآله ، ننقله من نسخة عتيقة، مما وقفناه من كتب خزانتنا، تاريخها سنة أربعمائة، فقال ما هذا لفظه : ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه واله كفا من حصى فرمى به في وجوه قريش ، وقال : (شاهت الوجوه )(4) فبعث الله ريحاً فضربت وجوه قريش ، وكانت الهزيمة عليهم .

--------------------------------
(1) مسالح : جمع مسلحة، وهم قوم ذوو سلاح ، يكونون في الثغور والمراقب . (الصحاح _ سلح _ 1 :376).
(2) في ( ش) : بها.
(3) الانفا ل 8 : 17 .
(4) ذكرنحوه في تفسيرالقمي 1: 287.

الأمـــــان من اخطار الأسفار والازمان _ 66 _

   أقول : فاجعل هذا مثالاً لرميك بالنشاب ، ليكون الله _ جل جلاله _ هو الرامي في المعنى، إذا كان به _ جل جلاله _ ولأجله _ جل جلاله _ وتظفر بنجاح الطلاب .
   أقول : وقد روينا في الرمي _إذا كان بالله وفي الله (1)جل جلاله _ حديثا ينبغي ذكره ونشره ، ففيه كرامة وقدوة(2) ومعجزة لملوك ذوي الألباب ، رويناه من كتاب (دلائل الامامة) تأليف أبي جعفر محمد بن رستم بن جرير الطبري الإمامي ، من أخبار معجزات مولانا محمدبن علي الباقر عليهما السلام ، ذكربإسناده عن الصادق عليه السلام قال : حج هشام بن عبدالملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمد عليهم السلام ، فقال جعفر بن محمد عليهما السلام :
   (الحمدلله الذي بعث محمدا بالحق نبيا وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله وخلفاؤه على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا).
   ثم قال: (فأخبرمسلمة أخاه بما سمع ، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي فاشخصنا ، فلما وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثاً(3)ثم أذن لنا في اليوم الرابع ، فدخلنا وإذا قد قعد على سرير الملك ، وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم ، سماطان متسلحان، وقد نصب البرجاس (4)حذاءه وأشياخ قومه يرمون .
   فلما دخلنا _ وأبي أمامي وأنا خلفه _ فنادى أبي : يا محمد، ارم مع أشياخ قومك الغرض ، فقال له : إني قد كبرت عن الرمي ، فإن رأيت أن تعفيني ، فقال : وحق من أعزنا بدينه ونبيه محمد صلى الله عليه لا أعفيك ، ثم أومأ إلى شيخ من بني امية أن أعطه قوسك ، فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ، ثم تناول منه سهماً فوضعه في كبد القوس،

--------------------------------
(1) في ( ش) : ولله .
(2) في ( ش) : وقدرة .
(3) في ( ش) : ثلاثة أيام .
(4) البرجاس : غرض في الهواء يرمى بالسهام . (الصحاح _ برجس _3 : 908).

الأمـــــان من اخطار الأسفار والازمان _ 67 _

  ثم انتزع ورمى وسط الغرض (فنصبه فيه )(1)، ثم رمى فيه الثانية فشق فواق (2)سهمه إلى نصله ، ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه ، فلم يتمالك أن قال : أجدت _ يا أبا جعفر_ وأنت أرمى العرب والعجم ، كلا زعمت أنك كبرت عن الرمي .
   ثم أدركته ندامة على ما قال ، وكان هشام لم يكن أحدا قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهم به وأطرق إلى الارض إطراقة يتروى فيه ، وأنا وأبي واقف حذاءه مواجه له ، فلما طال وقوفنا غضب أبي فهم به ، وكان أبي _ عليه وعلى آبائه السلام _ إذا غضب نظرإلى السماء نظر غضبان ، يتبين الناظر الغضب في وجهه ، فلما نظرهشام إلى ذلك من أبي قال : إلي يا محمد ، فصعد أبي إلى السرير وأنا أتبعه ، فلما دنا من هشام قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي، ثم أقبل على أبي بوجهه فقال له : يا محمد، لاتزال العرب والعجم يسودها قريش مادام فيهم مثلك ، لله درك ! من علمك هذا الرمي ؟ وفي كم تعلمته ؟ فقال أبي: قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه ، فتعاطيته أيام حداثتي ثم تركته ، فلما أراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت فيه ، فقال له : ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت ، وماظننت أن في الأرض أحداً يرمي مثل هذا الرمي ، أيرمي جعفرمثل رميك ؟ فقال : إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيه صلى الله عليه وآله في قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (3) والأرض لاتخلو ممن يكمل هذه الامور، التي يقصرغيرنا عنها.
   قال : فلما سمع ذلك من أبي ، انقلبت عينه اليمنى فاحولت واحمر وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنيئة ثم رفع رأسه فقال لأبي : ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم وأحد؟
   فقال أبي : نحن كذلك ، ولكن الله _ جل ثناؤه _ اختصنا من مكنون سره
--------------------------------
(1) في ( ش): فأثبته في فنصبه .
(2) الفوق : موضع الوتر من السهم . (الصحاح _ فوت _ 4 :1546).
(3) المائدة 5 : 3.

الأمـــــان من اخطار الأسفار والازمان _ 68 _

  وخالص علمه ، بما لم يخصه به أحداً غيرنا .
   فقال : أليس الله _ جل ثناؤه _ بعث محمداً صلى الله عليه وآله من شجرة عبد مناف ، إلى الناس كافة _ أبيضها وأسودها وأحمرها _ من أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة، وذلك قول الله تبارك وتعالى ( وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (1)إلى آخر الاية، فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ولا أنتم أنبياء ؟
   فقال : من قوله _ تبارك وتعالى_ لنبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) (2)الذي لم يحرك به لسانه لغيرنا ، أمره الله أن يخصنا به من دون غيرنا، فلذلك كان ناجى أخاه عليا من دون أصحابه ، فأنزل الله بذلك قرآنا في قوله(وتعيها أذن واعية) (3)فقال رسول الله لأصحابه : سألت الله يجعلها اذنك يا علي ، فلذلك قال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالكوفة : علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف باب من العلم ، ففتح كل باب ألف باب ، خصه رسول الله صلى الله عليه وآله من مكنون سره ، بما يخص (4)أمير المؤمنين أكرم الخلق عليه ، كما خصى الله نبيه عليه السلام أخاه علياً من مكنون سره وعلمه ، بما لم يخص به أحداً من قومه ، حتى صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا .
   فقال هشام بن عبدالملك : إن علياً كان يدعي علم الغيب ، والله لم يطلع على غيبه أحدا، فمن أين ادعى ذلك؟ فقال أبي: إن الله _ جل ذكره _ أنزل على نبيه صلى الله عليه واله كتابا بين فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، في قوله : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (5) وفي قوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (6)

--------------------------------
(1) آل عمران 3: 180 .
(2) القيامة 75 : 16 .
(3) الحاقة 69 : 12 .
(4) في ( ش ) : مما خص.
(5) النحل 16 : 89 .
(6) يس 36 : 12 .

الأمـــــان من اخطار الأسفار والازمان _ 69 _

   وفي قول : (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ )(1) وفي قوله : ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )(2).
   وأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله أن لا يبقي في غيبه وسره ومكنون علمه شيئاً إلا يناجي به علياً ، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده ، ويتولى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه .
   وقال لأصحابه: حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي ، غير أخي علي ، فإنه مني وأنا منه ، له مالي وعليه ماعلي ، وهو قاضي ديني ، ومنجز وعدي .
   ثم قال لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله .
   ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي عليه السلام ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أقضاكم علي ، أي هو قاضيكم .
   وقال عمر بن الخطاب: لولا علي هلك عمر. يشهد له عمر ويجحده غيره !
   فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه فقال: سل حاجتك ، فقال: خلفت عيالي وأهلي مستوحشين لخروجي ، فقال : قد آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم ، ولا تقم سرمن يومك ، فاعتنقه أبي (ودعا له )(3)،وفعلت أنا كفعل أبي ، ثم نهض و نهضت معه .
   وخرجنا إلى بابه إذا ميدان ببابه ، وفي آخر الميدان اناس قعود عدد كثير ، قال أبي: من هؤلاء؟ فقال الحجاب: هؤلاء القسيسون والرهبان ، وهذا عالم لهم يقعد إليهم في كل سنة يوماً واحداً يستفتونه فيفتيهم ، فلف أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه ، وفعلت أنا مثل فعل أبي ، فأقبل نحوهم حتى قعد نحوهم ، وقعدت وراء أبي ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام ، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظرمايصنع أبي ، فأقبل وأقبل عداد من المسلمين فأحاطوا بنا ، وأقبل عالم النصارى قد شد حاجبيه بحريرة صفراء(4) حتى توسطنا ، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلّمين عليه ، فجاء إلى صدرالمجلس

--------------------------------
(1 )الأنعام6: 38 .
(2 ) النمل 27 : 75.
(3 ) في المصدر: وودعه .
(4 )في (ش): بيضاء .

الأمـــــان من اخطار الأسفار والازمان _ 70 _

  فقعد فيه وأحاط به أصحابه ، وأبي وأنا بينهم ، فأدار نظره ثم قال لأبي : أمنا أم من هذه الامة المرحومة؟ فقال أبي : بل من هذه الامة المرحومة.
  فقال: من أين أنت ، من علمائها ، أم من جهالها؟ فقال له أبي: لست من جهالها. فاضطرب اضطراباً شديداً ثم قال له: أسألك . فقال له أبي: سل .
   فقال: من أين ادعيتم أن أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون ، وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لايجهل ؟ فقال له أبي: دليل ما ندعي من شاهد لايجهل ، الجنين في بطن امه يطعم ولا يحدث .
   قال: فاضطرب النصراني اضطراباً شديداً ، ثم قال: كلا زعمت أنك لست من علمائها ، فقال له أبي: ولا من جهالها. وأصحاب هشام يسمعون ذلك .
   فقال لأبي: أسألك عن مسألة أخرى ، فقال له أبي: سل ، فقال: من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبداً غضة طرية ، موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة ، وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لايجهل ؟ فقال له أبي: دليل ما ندعي أن ترابنا أبداً يكون غضاً طرياً موجوداً غير معدوم ، عند جميع أهل الدنيا(1) ، لا ينقطع .
   فاضطرب اضطراباً شديداً ، ثم قال: كلا ، زعمت أنك لست من علمائها ، فقال له أبي: ولا من جهالها .
   فقال له: أسألك عن مسألة ، فقال له: سل ، فقال: أخبرني عن ساعة لا من ساعات الليل ، ولا من ساعات النهار. فقال له أبي: هي الساعة التي بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس ، (يهدأ فيها المبتلى)(2) ويرقد فيها الساهر ، ويفيق المغمى عليه ، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين ، وفي الآخرة للعاملين لها(3)ودليلاً واضحاً وحجاباً بالغاً على الجاحدين المنكرين التاركين لها .
   قال: فصاح النصراني صيحة(4) ، ثم قال: بقيت مسألة واحدة ، والله لأ سألنك

--------------------------------
(1) في جميع النسخ: الجنة ، وما أثبتناه من البحار.
(2) في (ش): يهدى فيها الضال المسافر
(3)في (ش): بها .
(4) في (ش): بأعلى صوته .

الأمـــــان من اخطار الأسفار والازمان _ 71 _

  عن مسألة لا تهتدي إلى الجواب عنها أبداً ، قال له أبي: سل ، فإنك حانث في يمينك ، فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد ، وماتا في يوم واحد ، عمر أحدهما خمسون ومائة سنة ، والاخر خمسون سنة في دار الدنيا ، فقال له أبي: ذلك عزير وعزيرة ، ولدا في يوم واحد ، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاماً ، مر عزير على حماره راكباً على قرية بأنطاكية ، وهي خاوية على عروشها ، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها ، وقد كان الله اصطفاه وهداه ، فلما قال ذلك القول غضب الله عليه فأماته الله مائة عام سخطاً عليه بما قال ، ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه ، فعاد إلى داره وعزيرة أخوه لا يعرفه ، فاستضافه فأضافه ، و بعث إلى ولد عزيرة وولد ولده ، وقد شاخوا وعزير شاب في سن خمس وعشرين سنة ، فلم يزل عزير يذكر أخاه وولده وقد شاخوا ، وهم يذكرون ما يذكرهم ، ويقولون: ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون والشهور؟ ويقول له عزيرة ، وهو شيخ كبير ابن مائة وخمس وعشرين سنة: ما رأيت شاباً في سن خمس وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي عزير أيام شبابي منك ، فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض ؟ فقال عزير لأخيه عزيرة: أنا عزير ، سخط الله علي بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني ، فأماتني مائة سنة ثم بعثني ، لتزدادوا بذلك يقيناً أن الله على كل شيء قدير ، وها هو هذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم ، أعاده الله تعالى لي كما كان ، فعندها أيقنوا ، فأعاشه الله بينهم خمساً وعشرين سنة ثم قبضه الله وأخاه في يوم واحد .
   فنهض عالم النصارى عند ذلك قائماً ، وقام النصارى على أرجلهم ، فقال لهم عالمهم: جئتموني بأعلم مني ، واقعدتموه معكم حتى هتكني وفضحني ، وأعلم المسلمين أن لهم من أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا ، لا والله لا كلمتكم من رأسي كلمة ، ولا قعدت لكم إن عشت سنة .
   فتفرقوا وأبي قاعد مكانه وأنا معه ، ورفع ذلك في الخبر إلى هشام بن عبدالملك ، فلما تفرق الناس نهض أبي وانصرف إلى المنزل الذي كنا فيه ، فوافانا رسول هشام بالجائزة وأمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا ولا نحتبس ، لأن الناس ماجوا(1)

--------------------------------
(1) في (ش) زيادة: في أمرنا .

الأمـــــان من اخطار الأسفار والازمان _ 72 _

  وخاضوا فيما دار بين أبي وبين عالم النصارى .
   فركبنا دوابنا منصرفين ، وقد سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مدين (1)على طريقنا إلى المدينة ، إن ابني أبي تراب الساحرين محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين _ بل هو الكذاب لعنه الله _ فيما يظهران من الإسلام ، وردا علي فلما صرفتهما إلى المدينة ما لا إلى القسيسين والرهبان من كفار النصارى ، وأظهرا لهما دينهما ومرقا من الإسلام الى الكفر دين النصارى ، وتقربا إليهم بالنصرانية ، فكرهت أن أنكل بهما لقرإبتهما ، فإذا قرأت كتابي هذا ، فناد في الناس: برئت الذمة ممن يشاريهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلم عليهما ، فإنهما قد ارتدا عن الإسلام ، ورأى أمير المؤمنين أن تقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما شر قتلة .
   قال: فورد البريد إلى مدينة مدين ، فلما شارفنا مدينة مدين قدم أبي غلمانه ، ليرتادوا لنا منزلاً ويشتروا لدوابنا علفاً ولنا طعاماً فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا ، وشتمونا وذكروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، وقالوا: لا نزول لكم عندنا ولا شراء ولا بيع ، يا كفار ، يا مشركين ، يا مرتدين ، يا كذابين ، يا شر الخلائق أجمعين .
   فوقف غلماننا على الباب حتى أنتهينا إليهم ، فكلمهم أبي ولين لهم القول ، وقال لهم: اتقوا الله ولا تغلطون فلسنا كما بلغكم ، ولا نحن كما تقولون فاسمعونا .
   فقال لهم: فهبنا كما يقولون افتحوا لنا الباب ، وشارونا وبايعونا كما تشارون؟ تبايعون اليهود والنصارى والمجوس .
   فقالوا: أنتم شر من اليهود والنصارى والمجوس ، لأن هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم ما تؤدون ، فقال لهم أبي: فافتحوا لنا الباب وأنزلونا ، وخذوا منا الجزية كما تاخذون منهم .
   فقالوا: لا نفتح ، ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعاً نياعاً(2)، أوتموت دوابكم تحتكم . فوعظهم أبي فازدادوا عتواً ونشوزاً .
   قال: فثنى أبي رجله عن سرجه ، ثم قال لي: مكانك يا جعفر لا تبرح ، ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين ، وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع ، فلما صار في أعلاه

--------------------------------
(1) مدين: بلدة تجاة تبوك بين المدينة والشام . (معجم البلدان 5: 77).
(2) النياع: جمع نائع وهو العطشان. (الصحاح _ نوع _3: 1294).

الأمـــــان من اخطار الأسفار والازمان _ 73 _

  استقبل بوجهه المدينة وحده ، ثم وضع إصبعيه في أذنيه ، ثم نادى بأعلى صوته ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ) إلى قوله تعالى: (بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )(1) نحن والله بقية الله في أرضه. فأمر الله ريحاً سوداء مظلمة ، فهبت واحتملت صوت أبي فطرحته في اسماع الرجال والنساء والصبيان ، فما بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلا صعد السطوح ، وأبي مشرف عليهم .
   وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن ، فنظر إلى أبي على الجبل ، فنادى بأعلى صوته : اتقوا الله _ يا أهل مدين _ فإنه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب عليه السلام حين دعا على قومه ، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تنزلوه ، جاءكم من الله العذاب فأتى عليكم ، وقد أعذر من أنذر ، ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا .
   وكتب (2) بجميع ذلك إلى هشام ، فارتحلنا في اليوم الثاني ، فكتب هشام إلى عامل مدينة مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيطمره (3)_ رحمة الله عليه وصلواته _ وكتب إلى عامل مدينة الرسول أن يحتال في سم أبي في طعام أو شراب ، فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي من ذلك شيء(4).
   يقول علي بن موسى بن طاووس: فهذا ما أردنا ذكره من التنبه على أن الرمي با لله _ جل جلاله _ ولله _ جل جلاله _ يتولاه الله _ جل جلاله _ .

--------------------------------
(1) هود11: 84_86.
(2) في (ش) زيادة: العامل .
(3) طمره: دفنه أو غيبه . (لسان العرب _ طمر_ 4: 502).
(4) دلائل الامامة: 104 باختلاف في الفاظه . وأخرجه المجلسي في البحار 46: 306|1 .