الفهرس العام

الشورى في الواقع العملي


عدالة الصحابة
بيعة علي لأبي بكر
إمامة علي على نحو الاختيار وليس الجبر
إحتجاج السيدة فاطمة الزهراء (ع)
مسح الأرجل في الوضوء
أكذوبة المذاهب الأربعة :
الشعائر الحسينية
الحسين (ع) الدمعة الجارية

  هذا من جهة ومن جهة أخرى ، أننا إذا تنازلنا عن كل ما قلناه في علي عليه السلام ، ونظرنا إلى الشورى والإجماع الذي تحتجين به ، فهنالك عدة إشكاليات على أهل السقيفة ، وهي تتمثل في الريبة التي تلف زمان السقيفة ومكانها ، حيث السقيفة لم تكن هي المكان الذي يصلح لانعقاد مثل هذا الأمر الهام جداً وكان من الممكن أن ينعقد في مسجد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ، وثانياً ، الزمان الذي انعقدت فيه الشورى فأنه لا يخلوا من خبث واضح ، فأن الرسول مازال مسجى لم يدفن بعد ، فأي مسلم له غيرة على الإسلام يقبل ذلك.
  والإشكال الآخر ، إذا سلمنا أن للإجماع حجة ، فأن هذا الإجماع لم ينعقد ، لعدم حضور كل الصحابة وعلى الأقل أهل المدينة ، وكان فيهم كبار الصحابة ، ثم أن الطريقة التي جرت بها الشورى خالية حتى من أبسط الأخلاقيات ، لشدة المهاترات التي جرت بينهم ، كقول عمر لسعد عندما أجتمع الناس لمبايعة أبي بكر ، وكادوا يطئون سعد بن عبادة ، فقال أناس من أصحاب سعد : اتقوا سعداً لا تطئوه ، فقال عمر (اقتلوه قتله الله إنه صاحب فتنة) ، ثم قام على رأس سعد وقال له : لقد هممت أن أطاك حتى تندر عضوك ، فاقبل عليه قيس بن سعد وأخذَ بلحية عمر قائلاً : والله لوحصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ، ثم تكلم سعد بن عبادة مناديا وخاطب عمر : أما والله لو أن بي قوة ما ، أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يُوجحرك وأصحابك ، أما والله لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع ...) (1)

---------------------------
(1) ذكرها الطبري ج 3 ص 455.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 55 _

  فبالله عليكِ ، لأي شي أستحق سعد القتل ، ولم يكن يدعو إلا إلى نفسه كما دعا غيره ؟
  ولماذا كان صاحب فتنة ؟ وقد دعا للشورى التي أمر بها الإسلام كما تدعون.

عدالة الصحابة

  قلت : للأنصاف يا خالي قد أدهشني هذا الكلام ، ولكنني لا يمكن أن أصدق ذلك على الصحابة ، وكأني أراك متحاملاً عليهم ، وألا ما حفظت كل هذه الشواهد في مثالبهم ، ومما يجعلني أشكك في كلامك أن مثل هذه الأفعال كيف تصدر من الصحابة الذين رباهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.
  خالي : لا يا عزيزتي ، لم يكن في الأمر تحامل ، وما أنا ألا دارس للتاريخ ، وقد سجل لنا التاريخ أن الصحابة فعلوا ما فعلوا.
  ثم من قال أن مجرد الصحبة عاصمة من الخطأ ؟ فالصحابة هم مجتمع بشري يحمل الصالح والطالح ، وكون هنالك رسول أتفق وجوده مع وجودهم هذا ليس كافٍ أن ينقل كل ذلك المجتمع من قمة الجاهلية إلى قمة العدالة ، وكم هنالك مجتمعات عاش بينها عشرات الأنبياء لم يمنعهم ذلك من عذاب الله ، فبنوا إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم والليلة سبعين نبياً ، قال تعالى { أكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم ... }.
  أما لماذا فعلوا ، فهذا بحث آخر.
  قلت : ما هي نظرتكم إلى الصحابة بكل أمانة ؟
  خالي : ننظر إليهم كما نظر إليهم القرآن والأحاديث الشريفة.
  قلت : وكذلك أهل السنة يقولون ، أن القرآن نزههم من كل سوء وبايعوه على الموت وصاحبوه بصدق في القول والعمل ،

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 56 _

  وهي أحد الأصول التي ندين بها.
  خالي : هذه نظرتهم لا نظرة القرآن ، لان القرآن قسم الصحابة إلى ثلاثة أقسام ...
  الأول : الصحابة الأخيار الذين عرفوا الله ورسوله حق المعرفة ، ولم ينقلبوا بعده ، بل ثبتوا على العهد ، وقد مدحهم الله جل جلاله في كتابه العزيز ، وقد أثنى عليهم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في العديد من المواقع ، ونحن الشيعة نذكرهم باحترام وتقديس ونترضى عليهم.
  القسم الثاني : هم الصحابة الذين اعتنقوا الإسلام وأتبعوا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أما رغبة أو رهبة ، وهؤلاء كانوا يمنون إسلامهم على رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وكانوا يؤذونه في بعض الأوقات ولا يمتثلون لأوامره ونواهيه بل يجعلون لآرائهم مجالاً في مقابل الرسول ، حتى نزل القرآن بتوبيخهم مرة وتهديدهم أخرى ، وقد فضحهم الله في عديد من الآيات وحذرهم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في عديد من الأحاديث النبوية ونحن الشيعة لا نذكر هؤلاء إلا بأفعالهم.
  القسم الثالث : فهم المنافقون الذين صحبوا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) نفاقاً ، وقد أنزل الله فيهم سورة كاملة وذكرهم في العديد من المواقع وتوعدهم بالدرك الأسفل من النار ، وهؤلاء يتفق الشيعة والسنة على لعنهم والبراءة منهم.
  قلت : من أين أتيت بهذا التقسيم ، وقد قال تعالى { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريبا } ، فهذه الآية تفيد الإطلاق على كل من تبع الرسول (صلى الله عليه وسلم) وتصفهم بالإيمان وإنزال السكينة ، ماعدا المنافقين فهم

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 57 _

  خارجين تخصصاً.
  خالي : أولاً أن (المؤمنين) هنا ليست لفظ قصد منه الإطلاق أي مطلق المؤمنين ، وإنما صفة مخصصة ومقيد لكل من تبع الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) إي ليس كل من تبع الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) وإنما المؤمنون منهم.
  ثانياً : لو رجعتِ إلى الآية الأخرى التي تحدثت عن بيعة الشجرة في نفس السورة وبالتحديد الآية رقم 10 ، تجدين أن الله لم يجعل رضاه مطلقاً وإنما جعله مرهون ومشروط بعدم النكث ، قال تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسُيؤتيه أجراً عظيماً } والآية أوضح من أي تفسير ، فهذه الآية تبين أن هناك قسمان من الصحابة.
  قسم نكث ولم ينل رضا الله.
  وقسم أوفى بما عاهد الله فنال رضاه.
  قلت : تحليلك للأمور رائع ولكن ماذا تقول في قوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطاه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } فما رأيك في هذه الآية الصريحة في عدالة الصحابة ، وقد فسرَ بعضهم قوله (يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) يعجب المؤمنين ويغيظ الشيعة ، لأنهم يعادون الصحابة.
  خالي (وهو مبتسماً) : أولاً كون بعض من أرتأى وقالوا ما قالوا فأن هذا ليس ملزماً لنا ، كما أنه افتراء على الله ورسوله

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 58 _

  لأنه لا يتعدى كونه تفسيراً بالرأي.
  وثانياً : أنا أسألك ، ما معنى المعية هنا ؟ هل هي معية الزمان ؟ أم معية المكان ؟ أم معية من نوع آخر ؟
  إن كان المقصود بهذه المعية هو معية الزمان والمكان ، فأبو جهل وسجاح والأسود العنسي ، والمنافقين كانوا معه وكذلك المشركون ، من الواضح أن لا يكون المقصود ذلك ، وإنما معية من نوع آخر ، وهي من كان معه على المنهج ومؤيداً وثابتاً على ما عاهد الله عليه ، والدليل على ذلك ذيل الآية { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم } فمنهم ، تفيد التبعيض ، وهذا هوا عين الصواب ، وألا دخل في المعية أولئك المنافقون الذين مردوا على النفاق كما جاء في قوله تعالى { وممن حولك من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } ، كما أن الحديث عن المنافقين يفتح أمامنا سؤالاً عريضاً ، كيف أنقطع النفاق بمجرد انقطاع الوحي؟ فهل كانت حياة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) سبباً في نفاق المنافقين ؟ أو موته (صلى الله عليه واله وسلم) سبباً في إيمانهم وعدالتهم ؟ كل هذه الأسئلة يدعوا إليها الواقع التاريخي الذي لم يذكر لنا شي عنهم بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) مع أنهم كانوا يشكلون خطراً على الأمة الإسلامية ، قال تعالى { قاتل الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } ولم يثبت لنا التاريخ أن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قاتل المنافقين ، فهل يا ترى من الذي قاتل المنافقين ، غير علي (عليه السلام) وخاصة أن الكتاب والسنة أثبت بقاء المنافقين على نفاقهم ، بل هم الأكثرية الذين شكلوا تيار الانقلاب بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال تعالى { وما محمد ألا رسول قد خلت من قبله

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 59 _

  الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين } ولا يخفى عليكِ أن قوله { الشاكرين } دلالة على الأقلية ، لقوله تعالى { وأكثرهم للحق كارهون } وقال { وقليل من عبادي الشكور }.
  قلت : قد زدتني حيرة على حيرتي ، كيف يكون كل هذا في الصحابة ، فكيف تفسر تلك الحروب التي قدم فيها الصحابة أرواحهم ، وضربوا لنا أروع الأمثال في التضحية ، فيمكن أن ينافق الإنسان في كل شيء ألا في هلاك نفسه.
  خالي : لا تحتاري ، فأن مجتمع الرسول كان مجتمعاً بشرياً فيه الصالح والطالح ، ولا يمكن أن يكون مجرد وجود الرسول بينهم كافٍ لعصمة مجتمع بأكمله ، والآيات القرآنية حاكمة بذلك كما تقدم ، وغيرها كقوله تعالى { إذا يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله ألا غرورا } والعطف في الآية دالِ على أن الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين ، وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ... } ، ومن المعلوم أن الفاسق المقصود كان من الصحابة ، أما قولك كيف ضحوا بأنفسهم ، فأن مثل هذا السؤال لا تتوقف الإجابة عليه على كونهم مؤمنين ، والتاريخ والواقع خير شاهد على ما قلت ، فكم من حروب دارت وكم من جماعات ضحوا ، فهل نحكم على الجميع بالإيمان ، فهناك المكره وهناك من فرض عليه الواقع أمراً محكوماً ، والحروب التي كانت قبل الإسلام خير دليل ، ومع ذلك أنا لا أرمي الذين حاربوا مع رسول الله بأنهم كانوا مجبرين ، مع أنه كان هناك المجبور والمنافق كشهيد الحمار ، إنما أقول حتى المؤمن حقاً لا تعني حربه مع رسول الله عاصمة له من الانحراف بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فأن مجموعة كبيرة من

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 60 _

  الصحابة كانت تحارب مع رسول الله وهم يستلهمون الطاقة والحماس منه وبمعنى آخر كانوا يعملون بالطاقة الحرارية التي كانوا يكسبونها من رسول الله (ص) ، واضرب لك مثال على ذلك عندما يستمع الإنسان لخطيب بارع يتحدث عن الجهاد والتضحية فسوف تنتاب المستمعين حالة روحية عالية بحيث لو طلب من كل واحد منهم أن يضحي بنفسه فأنه لا يمانع ، ولكن مجرد أن يغادر المكان ويبتعد عن الخطيب ، تضعف تلك الطاقة ، هذا بخلاف الذي يكون له وعي كامل بالقضية فأنه يولد تلك الطاقة من نفسه ، وكثير من الثورات الإصلاحية تحول الداعون لها إلى مفسدين بعد أن فقدوا قائد هم الروحي ، وهذا أمر طبيعي ينتاب كل البشر ، ولك في الثورة المهدية في السودان خير مثال فبموت محمد أحمد المهدي انشقت صفوف الأنصار ووقع الخلاف بينهم ، وهكذا الصحابة بشر فإنهم معرضون لذلك ، قال تعالى { وما محمد ألا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } ، وقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) كما جاء في البخاري وصحيح مسلم : (بينما أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال ، هلم ، فقلت إلى أين ؟ فقال : إلى النار والله ، قلت ما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أرى يخلص منهم إلا كهمل النعم) وقال (أني فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم فأقول : أصحابي ، فيقال : أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي) (1).

---------------------------
(1) البخاري ج 4 ص 94 و ج 3 ص 32 وصحيح مسلم ج 7 ص 66.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 61 _

بيعة علي لأبي بكر

  طأطأت رأسي غارقة في تفكير عميق ومرددة ... عجيب عجيب عجيب .!!
  خالي : مما تعجبكِ؟
  قلت : وفق ما ذكرت من هذه الأدلة القاطعة ، وخاصة في مورد الإمامة ، فلماذا لم يعترض علي كرم الله وجهه على القوم بل أكد على موقف الشورى حيث قال في النص الذي سجلته لك (وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فأن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضى فأن خرج من أمرهم بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منهم فأن أبى قاتلوه على أتباعه غير المسلمين).
  خالي : كما أثبت لك أن الشورى باطلة ، وأن النص والتعيين هو المتحقق ، وهذا هو مبحثنا ، أما أن علي لماذا سكت فهذا بحث آخر.
  قلت (مقاطعة) : هذا الكلام لا أقبله منك ، أليست الخلافة حق لعلي ، فسكوت الإمام علي هو سكوت عن حقه.
  خالي : أجمعت الأمة على أن علياً (ع) وسائر بني هاشم لم يشهدوا البيعة ، ولا دخلوا السقيفة يومئذٍ ، كانوا منشغلين بتجهيز رسول الله (ص) ، حتى أكمل أهل السقيفة أمرهم ، وعقدوا البيعة لأبي بكر ، فأين كان الإمام (ع) عن السقيفة وعن بيعة أبي بكر ليحتج عليهم ؟.
  وقد أجاب الإمام علي (ع) عن هذا الإشكال عندما سأله الأشعث بن قيس ، عندما قال للإمام علي (عليه السلام) : ما منعك يا بن أبي طالب حين بويع أخو بني تميم وأخو بني عدي وأخو بني أمية ، أن تقاتل وتضرب بسيفك وأنت لم تخطبنا مذ قدمت العراق إلا قلت قبل أن تنزل عن المنبر والله إني لأول

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 62 _

  الناس ومازلت مظلوماً مذ قبض رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ، فقال عليه السلام : يا أبن قيس لم يمنعني من ذلك الجبن ولا كراهية لقاء ربي ولكن منعني من ذلك أمر النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وعهده إلىّ أخبرني بما الأمة صانعة بعده ، فقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : يا علي ستغدر بك الأمة من بعدي.
  فقلت يا رسول الله فما تعهد إليّ إذا كان كذلك ؟
  فقال الرسول : إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فكف يدك وأحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً) (1).
  وفي رواية الخطيب البغدادي ، عن أبي عثمان النهدي عن علي (عليه السلام) قال : أخذ علي يحدثنا إلى أن قال : جذبني رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وبكى ، فقلت : يا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ما يبكيك ؟ قال : ضغائن في صدور قوم لن يبدوها لك ألا بعدي.
  فقلت : بسلامة من ديني.
  قال : نعم بسلامة من دينك (2).
  كما سئل هذا السؤال الإمام الرضا (عليه السلام) وهو الإمام الثامن من أهل البيت ، فأجاب : لأنه ـ أي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ـ اقتدى برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في تركه جهاد المشركين بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة تسعة عشر شهر.
  وجاء في كتاب معاوية إلى علي (عليه السلام) ، واعهدك

---------------------------
(1) شرح الذهبي في البلاغة للتستري ج 4 ص 519 وشرح الخطبة الشقشقية في شرح النهج.
(2) تاريخ بغداد ج 13 ص 398.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 63 _

  أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ويداك في يد ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر فلم تدع من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك ومشيت إليهم بامرأتك وأدليت إليهم بابنيك ، فلم يجبك منهم ألا أربعة أو خمسة.
  مهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمّا حركك وهيجك ، لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم) (1).
  فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ترك جهاد القوم ، لقلة ناصريه فصبر وفي العين قذى وفي الحلق شجى يرى تراثه ينهب ، ويعلل ذلك بأنه لم يسكت ألا تأسياً بالأنبياء حيث قال : إن لي بسبعة من الأنبياء أسوة.
  الأول : نوح (عليه السلام) قال الله تعالى مخبراً عنه في سورة القمر فدعا ربه { أني مغلوب فأنتصر } فإن قلت لم يكن مغلوباً فقد كذبت القرآن وإن قلت كان مغلوباً فعلي أعذر.
  الثاني : إبراهيم الخليل (عليه السلام) حيث حكى الله تعالى عنه ، قوله : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } فأن قلت أعتزلهم من غير مكروه فقد كفرت وأن قلت رأى المكروه فأعتزلهم فعلي أعذر.
  الثالث : نبي الله لوط (عليه السلام) إذ قال لقومه على ما حكاه الله تعالى : { لو أن لي بكم قوة أو أوي إلى ركن شديد } فإن قلت كان له بهم قوة فقد كذبت القرآن وإن قلت إنه ما كان له بهم قوة فعلي أعذر.
  الرابع : نبي الله يوسف (عليه السلام) فقد حكى الله تعالى عنه : { رب السجن أحب إليّ مما يدعونني أليه } فإن قلت إنه دعي

---------------------------
(1) رواه نصر بن مزاحم في تاريخ صفين ، وشرح النهج ج 3 ص 327.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 64 _

  إلى غير مكروه يسخط الله تعالى فقد كفرت وإن قلت إنه دعي إلى ما يسخط الله فأختار السجن فعلي أعذر.
  الخامس : كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) إذ يقول على ما ذكره الله تعالى عنه : { ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي رب حكما وجعلني من المرسلين } فإن قلت أنه فر منهم من غير خوف فقد كذبت القرآن وإن قلت فرّ منهم خوفاً فعلي أعذر.
  السادس : نبي الله هارون بن عمران (عليه السلام) إذ يقول على ما حكاه الله تعالى عنه : { يا أبن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني } فإن قلت إنهم ماستضعفوه فقد كذبت القرآن وإن قلت إنهم استضعفوه وأشرفوا على قتله فعلي أعذر.
  السابع : محمد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) حيث هرب إلى الغار فإن قلت : إنه (صلى الله عليه واله وسلم) هرب من غير خوف فقد كفرت وإن قلت أخافوه وطلبوا دمه وحاولوا قتله فلم يسعه غير الهرب فعلي أعذر.

إمامة علي على نحو الاختيار وليس الجبر

  أن الأحكام الشرعية يا عزيزتي ، معلقة على حرية المكلف واختياره ، فأن الله لا يجبر عباده على طاعته ، فكون علي (ع) أمام من قبل الله تعالى لا يعني أن تجبر الخلائق على أتباعه ، { من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } وهذا ما جرى على الأنبياء جميعهم ، قال تعالى {أفكلما جاء كم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون } فالبيعة لعلي لا يفرضها الله على عباده كما لم يرفض بيعة الرسول ، قال تعالى { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } و المجيء دالٌ على أن الأمر بالبيعة معلق على مجيء المؤمنات طائعات.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 65 _

  لذلك قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في حق علي (عليه السلام) كما أخرجه الطبري في الرياض النضرة : (يا علي إني أعلم ضغائن في صدور قوم سوف يخرجونها لك من بعدي ، أنت كالبيت تؤتى ولا تأتي أن جاءوك وبايعوك فاقبل منهم وألا فأصبر حتى تلقاني مظلوماً) فإذا كان هنالك قصور فهو من الذين لم يبايعونه.
  هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن في الأمر تزاحم مصالح ، فولاية علي (عليه السلام) مصلحة والحفاظ علي بيضة الإسلام مصلحة أخرى (1) فقدم علي مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام على مصلحة إمامته ، كما فعل نبي الله هارون عندما عبد قومه العجل فلم يمنعهم حفاظاً على وحدة بني إسرائيل قال تعالى { إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل }.
  قلت : إذاً بماذا تفسر كلمة الإمام كرم الله وجهه التي جاءت في نهج البلاغة : (وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فأن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى ...).
  خالي : باختصار شديد أجيبك قائلاً : إن أبن أبي الحديد المعتزلي هو أول من أحتج بهذه الكلمة على أن صيغة الحكومة بعد وفاة النبي (ص) مستندة إلى الاختيار ونظام الشورى وتبعه من تبعه ، ولكنه غفل ـ أو بالأصح تغافل ـ عن صدر الكلمة التي تعرب عن أن الاستدلال بالشورى من باب الجدل ، خضوعاً لقوله تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } فأن الإمام علي (عليه السلام) بدأ كلمته بقوله : (أما بعد ، فإن بيعتي

---------------------------
(1) أن الدولة الإسلامية كانت مهددة من المنافقين من جهة ودولة فارس والروم من جهة أخرى ، وهذا بالإضافة لما أخبر به القرآن الكريم من حوادث تقع بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) كأية الانقلاب.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 66 _

  بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ـ مخاطباً معاوية بن أبي سفيان ـ لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد ... إلى قوله : وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردهما ، فجاهدتُهما على ذلك حتى جاء الحق ، ظهر أمر الله وهم كارهون ... فادخل فيما دخل فيه المسلمون) فقد أبتدأ أمير المؤمنين (عليه السلام) بخلافة الشيخين وذلك يعرب على أنه في مقام إسكات معاوية ـ الذي خرج على إمام زمانه ـ وقد تم عليه السلام كلمته بقوله : (فإن اجتمعوا على رجل ...) احتجاجاً بمعتقد معاوية ، بمعنى ألزموهم ما ألزموا به أنفسهم.
  وهذه هي الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (أما ولله لقد تقمصها (1) بن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى إليّ الطير (2) ، فسدلت (3) دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً (4) وطفقِت أرتئي بين أن أصول بيد جزاء (5) أو أصبر على طخية عمياء (6) يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فرأيت أن الصبر على هاتا

---------------------------
(1) الضمير عائد على الخلافة ، فهنا شبه الإمام علي (عليهم السلام) خلافة أبي بكر كالذي لبس قميص ليس قميصه.
(2) تمثيل لسمو قدره (عليهم السلام) وقربه من مهبط الوحي وأن ما يصل إلى غيره من فيض الفضل فإنما يتدفق من حوضه ثم ينحدر عن مقامه العالي فيصيب منه من شاء الله.
(3) كناية عن غض نظره عن الخلافة ، وسدل الثوب : أرخاه.
(4) مال عن الخلافة ، وهو مثل لمن جاع ، فمن جاع طوى كشحه ومن شبع فقد ملأه فهو عليه السلام قد جاع عن الخلافة أي لم يلتقمها.
(5) الجذّاء : المقطوعة ، ومراده (عليهم السلام) هنا قلة الناصر والمعين.
(6) الطخية : الظلمة ، ونسبة العمى إليها مجاز عقلي ،وهو تأكيد لظلام الحال واسودادها.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 67 _

  أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهبا (1) ، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى أبن الخطاب بعده (ثم تمثّل بقول الأعشى) :

شتّان ما يومي على كورها ويوم حيّان أخي جابر
  فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته (2) إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّرا ضرعيها (3) فصيّرها في حوزةٍ خشنا يغلظ كلمُها ويخشُن مسُّها ... إلى أن يقول (عليه السلام) : فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فــيالله وللشورى متى أعترض الرّيب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكني أسففت إذ أسفُّوا وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه (4) ومال الآخر لصهره (5) مع هنٍ وهنٍ (6) إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه (7) ... إلى أن ختمها بقوله (عليه السلام) : أما والذي فلق الحبّـة وبرأ النّسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز)

---------------------------
(1) وهذا تأكيد منه (عليهم السلام) بأن الخلافة حق ثابت له ، وما أبو بكر ألا سارق.
(2) إشارة لقول أبي بكر : (أقيلوني فلست بخيركم).
(3) وهي إشارة منه (عليهم السلام) على تقسيم الخلافة بين أبي بكر وعمر.
(4) يشير (عليهم السلام) إلى سعد بن أبي وقاص الذي صغى إلى ضغنه وهو عبد الرحمن بن عوف.
(5) يشير (عليهم السلام) إلى عبد الرحمن بن عوف الذي مال إلى صهره وهو عثمان بن عفان.
(6) إشارة منه (عليهم السلام) إلى أغراض أخر يكره ذكرها.
(7) يشير (عليهم السلام) إلى عثمان وكان ثالثاً بعد انضمام كل من طلحة والزبير وسعد إلى صاحبه ، ونافجاً حضنيه ، رافعاً لهما ، والحضن : ما بين الإيبط والكشح يقال للمتكبر جاء نافجاً حضنيه ، والنثيل : الروث ، والمعتلف : موضع العلف أي أراد (عليهم السلام) بقوله : لا همَّ له ألا ما ذكر.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 68 _

إحتجاج السيدة فاطمة الزهراء (ع)

  تجمد فكري ، وعقدت الحيرة لساني ، فوضعت كلتا يدي على رأسي ثم قلت كل هذا ونحن لا ندري ، أمرٌ لا يصدق.
  فلم يدعني خالي أرتاح قليلاً ... حتى أنعش أعصابي فبادرني قائلاً : هذا فيما يتعلق باحتجاج أمير المؤمنين على بن أبي طالب (عليه السلام) ، ودعيني أقرأ عليك مما جاء عن أحتجاج الزهراء (عليها السلام).
  خالي : بغض النظر عن ما جاء في المصادر الشيعية من استنكار أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) ، فقد ذكر أبو الفضل أحمد بن طيفور وجاء في شرح بن أبي الحديد في المجلد الرابع وفي أعلام النساء لعمر رضا كحالة (1) ، قالت (عليها السلام) في خطبتها ـ التي كان أهل البيت (عليهم السلام) يلزمون أولادهم بحفظها كما يلزمونهم بحفظ القرآن ـ : (ويحهم أنى زحزحوها (2) عن رواسي الرسالة ؟!
  وقواعد النبوة ومهبط الروح الأمين ، الطبن (3) بأمور الدنيا والدين ، ألا ذلك الخسران المبين.
  وما الذي نقموا من أبي الحسن ؟
  نقموا والله منه نكير سيفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمره في ذات الله ، وتالله لو تكافأوا (4) على زمام نبذه إليه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ، لأعتقله وسار بهم سيراً سجحاً

---------------------------
(1) ج 3 ص 1208 ، وقد أخرج خطبة الزهراء أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة وفدك.
(2) أي الخلافة.
(3) أي الخبير.
(4) التكافؤ : التساوي ، والزمام الذي نبذه إليه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ـ أي ألقاه إليه ـ إنما هو زمام الأمة في أمور دينها ودنياها ، والمعنى أنهم لو تساووا جميعاً في الإنقياد بذلك الزمام والإستسلام إلى ذلك القائد العام ، لأعتقله أي وضعه بين ركابه ، وساقه كما يعتقل الرمح.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 69 _

  لا يكلم خشاشة (1) ولا يتعتع راكبه ولأوردهم منهلاً روياً فضفاضاً (2) تطفح ضفتاه ولا يترنم جانباه ولأصدرهم بطانة (3) ونصح لهم سراً وأعلاناً غير متحل منهم بطائل إلا بغمر الناهل (4) وردعة سورة الساغب (5) ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض وسيأخزهم الله بما كانوا يكسبون ، ألا هلم فأستمع وما عشت أراك الدهر عجباً ، وإن تعجب ، فقد أعجبك الحادث ، إلى لجأ لجأوا ؟! وبأي عروة تمسكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، بئس للظالمين بدلا ، أستبدلوا والله الذنابا بالقوادم ، والعجز بالكاهل فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ألا هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، ويحهم أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي فمالكم كيف تحكمون ... إلى آخر الخطبة).
  بينما هو يقرأ أحسست برعشة تسري إلى جميع أجزاء بدني وجرت دمعة على خدي ... وكيف لا أبكي وقد أحسست بأنفاس الزهراء الطاهرة تتسرب مع أنفاسي إلى أعماق نفسي ، فكانت تلك الكلمات حروفاً من نور تشع في وجداني ، ورب السماء والأرض لوا أنكر أهل الدنيا جميعاً هذه الكلمات لعشت بها وحيدة في فيافي الأرض وقفارها ، أترنم بأجراس كلماتها وترقص نفسي طرباً بأزيز أنغامها ، وهنا يكون العشق والحب ، وتهيم الروح سكراً بلب معناها.

---------------------------
(1) سار بهم سيراً سجحاً أي سيراً سهلاً.ولايكلم خشاشة أي لا يجرح أنف البعير ، والخشاش : عود يجعل في أنف البعير يشد به الزمام ولايتعتع ركابه ، أي لايصيبه اذى.
(2) أي يفيض منه الماء.
(3) أي شبعانين.
(4) أي ري الظمآن.
(5) أي كسر شدة الجوع.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 70 _


  كففت دمعي وتوسلت بخالي أن لا يقطع الحوار بسبب اضطرابي ... دعاني إلى النوم لكي تهدأ أعصابي ، قلت كم هي الليالي التي لم نستفد منها إلا النوم فإن كانت ليلة القدر خير من ألف شهر فهذه الليلة خير من ألف يوم ، فتلك الليلة تكتب فيها الأقدار وهذه الليلة تبعث فيها الأرواح.
  وبعد إلحاح قال خالي : أختم لكِ هذه الليلة بحوار عمر مع جدنا العباس الذي نتشرف بالانتساب إليه.
  كما جاء في الكامل لأبن الأثير (1) ، وشرح النهج لأبن أبي الحديد (2) وتاريخ الطبري (3).
  قال عمر : أتدري ما منع قومكم بعد محمد (صلى الله عليه وسلم) ؟
  قال بن عباس : فكرهت أن أجيبه فقلت له : إن لم أكن أدري فإن أمير المؤمنين يدري.
  فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتجحفوا على قومكم بجحاً بجحاً (4) فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت.
  عندها قال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ، إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب ، تكلمت.
  قال : تكلم.
  فقال بن عباس : أما قولك يا أمير المؤمنين ، اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت ، فلوا أن قريش اختارت لأنفسها من حين اختار الله لها ، لكان الصواب بيدها غير مردود ولا

---------------------------
(1) ج 3 ص 63.
(2) ج 3 ص 107.
(3) ج 4 ص 223.
(4) التبجح بالشي ، أي الفرح به.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 71 _


  محسود ، وأما قولك إنهم أبوا أن تكون لنا النبوة والخلافة فأن الله غز وجل ، وصف قوماً بالكراهة ، فقال : { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } قال عمر : هيهات يا بن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرك عليها فتزيل منزلتك مني.
  فقال بن عباس : ما هي يا أمير المؤمنين ؟ فإن كانت حقاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه.
  قال عمر : بلغني أنك تقول إنما صرفوها عنا حسداً وبغياً وظلماً.
  فقال بن عباس : أما قولك يا أمير المؤمنين ظلماً فقد تبين للجاهل والحليم ، وأما قولك حسداً فإن آدم حُسِدَ ونحن ولده المحسودون.
  فقال عمر : هيهات ، هيهات ، أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسداً لا يزول.
  فقال بن عباس : مهلاً يا أمير المؤمنين لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا).
  خالي : والدليل على أن أهل البيت عليهم السلام محسودون على المكانة التي خصهم بها الله قوله تعالى (أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله ولقد أتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيما) والتدبر في هذه الآية يكشف لنا أن الحسد وقع على هؤلاء الناس بسبب عطا ربك لهم ا (لكتاب والحكمة والملك العظيم) لأن المعلوم والمحكم في هذه الآية أن الله أعطا آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك العظيم ، والمتشابه علينا في هذه الآية هو من المقصود بالناس في هذه الآية وما هو الفضل الذي أُعطيّ لهم ، ولاستجلاء المعنى المقصود لا بد من أجراء المقابلة (فالناس يقابلهم آل إبراهيم)

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 72 _


  (والفضل ، يقابله الكتاب والحكمة والملك العظيم) فهل يا ترى من هؤلاء الناس في أمة محمد يقابلون آل إبراهيم ، هل تجدي غير آل محمد كفء ونظير لآل إبراهيم ، فيتضح بذلك إن الناس المقصودون في هذه الآية هم آل محمد (ص) أما الفضل الذي أُعضيّ لهم فهو الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فيكون معنى الآية (أم يحسدون آل محمد على ما أتاهم الله من الكتاب والحكمة والملك العظيم ، ولقد أتينا آل أبراهيم مثل ما أعطيناهم من الكتاب والحكمة والملك العظيم) فهل عرفتِ بذلك السبب الذي جعلهم يزيلوا آل محمد عن مراتبهم التي رتبهم الله بها.
  يا عزيزتي : قد تبين للجاهل قبل العالم ، وإياكِ أن تحيدي عن قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
  قلت : كل ما ذكرته مقنعاً ، ومستنداً على الأدلة والبراهين الساطعة ، وهذا خلاف ما كنا نعرفه عن الشيعة الذين كانوا في تصورنا أبعد الناس عن الحق ، وكل ما يمكن أن أجزم به الآن حتى لا كون متعجلة بالحكم بأحقية مذهبكم أن الشيعة طائفة إسلامية يجب أن تحترم وأن كانوا يختلفون مع عامة المسلمين من أهل السنة في بعض الأمور التي يمكن تجاوزها في سبيل الوحدة الإسلامية ، وللأنصاف يا خالي لقد سررت جداً بهذا الحوار وقد تعلمت منه درساً لن أنساه أبداً ، وهو عدم الحكم على الآخرين بالأفكار المسبقة ، والرجوع إليهم لا إلى من يخالفهم ، وأنا أعتقد أن من أعظم المصائب التي تعيشها امتنا هي فقدانها لأرضية الحوار.
  ولكن عفواً يا خالي مازال هناك سؤالاً يراودني ، هل غاب هذا عن العلماء ؟
  ولماذا لم يتوصل أحد منهم لما ذكرت ؟
  خالي : لقد أثلجتِ صدري بهذا الكلام الذي ينم عن وعي

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 73 _

  وشعور كاملين بالمسؤولية ، التي أمرنا القرآن الكريم أن نتحلى بها من معرفة المنهج القرآني في المباحثة والمناظرة العلمية الذي يعترف بالطرفين ، قال تعالى معلماً رسوله (ص) مخاطبة الكفار والمشركين : { وإنّا أو إياكم لعلى هدى أوفي ضلال مبين } ، فانظري إلى هذا التعامل الأخلاقي النبيل ، فلم يقل لهم أني على حق و أنتم على ضلال ، بل قال إما نحن أو أنتم على حق أو على باطل ... فهذا هو منهج القرآن عندما طرح للجميع حرية المناقشة قائلاً : { قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين } فكان رسول الله (ص) يسمع براهينهم ويردها بالتي هي أحسن ، وقد سجل القرآن نماذجاً كثيرةً سواء كانت مع رسول الله (ص) أو مع الأنبياء السابقين ، ففي قصة إبراهيم ونمرود ، وموسى وفرعون ، خير عبر ، وقد أثبت الله سبحانه وتعالى حجج وبراهين الكافرين في قرآنه ، وأعطاها من القداسة ما أعطى غيرها من الآيات ولم يجوّز لمسلم أن يمسها من غير وضوء بناء على الفقه الشيعي ، فأين هؤلاء الذين يشنعون ويفترون على الشيعة بكل ما هو باطل من هذا المنهج القرآني الأصيل (1).
  أما قولكِ لماذا لم يتوصل أحد لما ذكرت ؟
  قال تعالى { أكثرهم للحق كارهون } وقال { أكثر الناس لا يعلمون } { أكثر الناس لا يشكرون } { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } { فأبى أكثر الناس ألا كفورا } { أكثر الناس لا يؤمنون } ... هذا أولاً.
  ثانياً : هناك من هو مصداق قوله تعالى { وجحدوا بها وإستيقنتها

---------------------------
(1) راجع كتاب الحقيقة الضائعة ، لمعتصم سيد أحمد ، ص 30 تحت عنوان ملاحظات للباحث لا بد منها ، و ص 218 مع أحسان إلهي ظهير.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 74 _


  أنفسهم ظلماً وعلوا }
  ثالثاً : هنالك مجموعة من نخبة السنة وعلمائها من كسر الأغلال وتعدى حواجز الكبت الإعلامي ، والتحقوا بركب التشيع في كل أنحاء العالم ، فتمسك بعض العلماء بموقفهم ليس دليلاً على بطلان مذهب آل البيت و إلا حكمنا ببطلان مذهب أهل السنة أيضاً لتمسك علماء الطوائف الأخرى بعقيدتهم.

مسح الأرجل في الوضوء

  لو سمحت لي يا خالي بأخر سؤال ، لقد رأيتك تمسح على رجليك في الوضوء بدلاً عن الغسل فما هو السبب ، أليس الغسل أنظف وآمن للنجاسة من المسح ؟
  خالي : (وهو مستغرباً لهذا الانتقال المفاجئ) نعم الغسل أنظف ولكن الله أعرف ، ثم أبتسم.
  قلت : ولكن لم يأمر الله بالمسح ؟
  خالي : صبراً علي ، قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } فقوله { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم } دالة على وجوب المسح ، بكلى القراءتين بالكسر أو بالفتح ، أما الكسر فواضح لأنها معطوفة على الرأس ، وأما النصب فأنه يدل على المسح أيضاً وذلك لأنه معطوف على موضع الرؤوس لوقوع المسح عليهما ، ولا يمكن العطف على الأيدي وذلك لوجود فاصل أجنبي وهو المسح ، فلا يجوز العطف على البعيد مع إمكانية العطف على القريب.
  وهذا ما أكدت عليه روايات أهل بيت العصمة والطهارة ، بل هنالك أحاديث من مصادر أهل السنة تؤيد المسح ، وممن قال بالمسح ، بن عباس والحسن البصري والجبائي والطبري وغيرهم.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 75 _

  قال بن عباس وأنس : الوضوء غسلتان ومسحتان ، كما جاء في الدر المنثور (1) ، قال عكرمة : ليس على الرجلين غسل إنما فيهما المسح ، وبه قال الشعبي : (ألا يرى أن في التيمم يمسح ما كان غسلاً ويلقي ما كان مسحاً) (2) وروى أوس بن أوس قال : رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) توضأ ومسح على رجليه ، ووصف بن عباس وضوء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وانه مسح على رجليه وقال : إن كتاب الله المسح ويأبى الناس ألا الغسل) (3) ، وجاء أيضاً في كنـز العمال عن حمران قال : دعا عثمان بماء فتوضأ ثم ضحك فقال : ألا تسألوني مم أضحك ؟
  قال : يا أمير المؤمنين ما أضحكك ؟
  قال : رأيتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) توضأ كما توضأت ، فمضمض وأستنشق وغسل وجهه ثلاثاً و يديه ثلاثاً ومسح برأسه وظهر قدميه) (4) ، وفي سنن بن ماجة فقال : إنهما لا تتم الصلاة لأحد حتى تسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى ، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين) (5).
  إلا يكفي هذه دلالة على وجوب المسح.
  قلت : عجيب ولماذا يغسل أهل السنة إذاً ؟

---------------------------
(1) ج 6 ص 28 الطبعة الثانية 1918.
(2) نفس المصدر ص 29.
(3) الدر المنثور السيوطي ج 6 ص 28 ، وكنز العمال ج 9 ص 434.
(4) ص 436.
(5) ج 1 حديث رقم 460.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 76 _


  خالي : أنتِ سألتيني لماذا يمسح الشيعة فأجبتك ، وبقى عليكِ أن تجيبي على سؤالك لماذا يغسل أهل السنة ؟
  ثم أعتذر وأنصرف لنومه.

أكذوبة المذاهب الأربعة :

  وبعد ذلك الحوار وجلسات أخرى متفرقة مع خالي ، اهتزت كل قناعاتي بالموروث الديني السني ، وتكشفت أمام ناظري مجموعة من الحقائق ، بعدما وقفت على عمق الخلافات المذهبية ، وعندما أتى خالي لزيارتنا في بيتنا عاجلته بالسؤال ما هو رأيكم في المذاهب الأربعة ؟
  فبتسم خالي قائلاً أما زلتِ في حيرة من أمرك ، فإن الله ورسوله لم يكلفاك بأتباع أحد منهم وأنا أتحدى كل علماء السنة الماضين منهم والباقين أن يستدلوا بدليل واحد على وجوب تقليدهم ، فدعي عنكِ تلك الوساوس وتوجهي إلى أئمة الهدى من آل البيت عليهم السلام فهم موضع الحكمة والرسالة جعلهم الله لنا عصمة وملاذا ، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب والله وعترتي أهل بيتي) ولم يقل كتاب الله وأئمة المذاهب الأربعة.
  فقاطعته قائلة : ولكن قال (كتاب الله وسنتي) مما يفتح الباب واسعاً أمام اجتهاد الأمة ؟
  خالي : أولاً : أن حديث كتاب الله وسنتي غير صحيح فلم يرويه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي وكل الصحاح الستة ، فكيف نرتكز على حديث غير ثابت عن رسول الله (ص) فهذا الحديث لم يرويه إلا مالك في الموطأمن غير سند فقد جاء في الموطأ (أن مالك بلغه إن رسول الله قال : تركت فيكم كتاب الله وسنتي) فكيف يا ترى بلغ مالك هذا

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 77 _

  الحديث عن رسول الله (ص) ؟! ومن المعلوم أن الفاصل بين رسول الله (ص) ومالك يحتاج فيه الحديث إلى سند طويل ، يعنى حدثني فلان عن فلان عن فلان عن الصحابي عن رسول الله ، وهذا الحديث من غير سند مما يعني أنه حديث في غاية الضعف ، أما حديث (تركت فيكم كتاب الله وعترتي) فقد رواه مسلم في صحيحه بعدة طرق وروته كل الصحاح الستة ما عدى البخاري وعدد الرواة الذين نقلوا الحديث من الصحابة يتجاوز الثلاثين راوياً مما يعنى أنه حديث متواتر مقطوع الصدور عند السنة والشيعة ، فكيف نتنازل عنه من أجل حديث لا سند له ، ومن هنا كان من الواجب على كل مسلم أن يتبع أهل البيت (ع) في كل أمور دينه.
  قلت : هناك حديث آخر يقول عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، فنستفيد من هذا الحديث أولاً التمسك بسنة الرسول وسنة الخلفاء ثانياً.
  خالي : هذه إسقاطات لا يقبلها النص ، أولاً بعيداً عن مناقشة سند الحديث الذي أستفرد بنقله بن داود وبن ماجة والترمذي وتجاوزنا عن تضعيف بعض الرواة في أسانيده ، فإن هذا الحديث لا يتحمل أكثر من دعم رأي الشيعة ، وذلك أن كلمة الخلفاء هنا لا تعنى الخلفاء الأربعة أو الذين حكموا في التاريخ لأن هذا إسقاط تأويلي متأخر عن النص فتسمية الخلفاء الراشدين للأربعة الذين حكموا ليست هي تسمية شرعية وإنما تسمية المؤرخين الذين حكموا على فترة حكم الخلفاء بالرشد ، فبالتالي لا يكون الخلفاء مصداق لهذا الحديث لمجرد اشتراك التسمية ، فيكون التفسير الأقرب إن الخلفاء المقصودين هم أئمة أهل البيت الأثنا عشر وذلك لقول الرسول (ص) في البخاري في باب الخلافة ومسلم وغيرها من الصحاح عشرين رواية

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 78 _

  كما جمعها القندوزي الحنفي في ينابيع المودة أن رسول الله قال : (أن الخلفاء من بعدي أثناء عشر خليفة) فجاء في رواية كلهم من قريش ، وفي رواية كلهم من بني هاشم ، وهذا الترديد في نقل الراوي لا يؤثر في الاستدلال بهذا الحديث على إمامة أهل البيت عليهم السلام ، وذلك بأن الفرقة الإسلامية الوحيدة التي توالي أثنا عشر أماماً هم الشيعة الأمامية الإثنا عشرية ، كلهم من أهل البيت ، فإذا ثبت وهو كذلك حديث رسول الله (ص) عليكم بكتاب الله وعترتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، ثم جاء حديث آخر يقول الخلفاء من بعدي إثنا عشر خليفة تعين أن يكون هؤلاء من أهل البيت ، لأنه يستحيل عقلاً أن يأمرنا الرسول (ص) بأتباع أهل البيت ، وفي نفس الوقت يأمرنا بإتباع خلفاء من غير أهل البيت ، مما يحدث تناقضاً وتضارباً ، فتعين أن يكون الخلفاء المقصودون في الحديث هم الأئمة من آل البيت (ع) وللأسف لم يكن الخلفاء الذين حكموا في التاريخ ولا أئمة المذاهب الأربعة من آل البيت ، وهذا كافي في أبعادهم عن ساحة الحوار.
  قلت : ولكن من أين جاءت فكرة المذاهب الأربعة ؟
  خالي : فكرة المذاهب الأربعة خدعة نسجت خيوطها سياسات الكبت الأموية والعباسية إلا لم يكن الفقهاء الأربعة هم أعلم أهل زمانهم فهناك من كان أكثر علماً منهم وكان لهم مذاهبهم الخاصة كسفيان الثوري وبن عيينة والاوزاع وغيرهم أنقرضت مذاهبهم عندما لم تجد دعماً سياسياً من السلطة ، مما يعنى أن للسلطة مآرب معينة لتمرير أسماء الأربعة ومن ثم سد الطريق عن غيرهم ، والأمر واضح وهو خلق قيادات فقهية بديلة عن أهل البيت لكي يلتف حولها عامة المسلمين ، أوليس من العجيب فعلاً إن كل ما جاء في أهل البيت من آيات قرآنية

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 79 _

  وأحاديث نبوية كاشفة عن مكانة عظيمة ومرتبة رفيعة إذا لم نقل بالعصمة ، ألا تؤهلهم في نظر أهل السنة ليتسلم أهل البيت زمام الفتيا أو على أقل تقدير يختارون واحداً من أهل البيت ليكون من بين الأئمة الأربعة ، حتى يأتي شيخ الأزهر شلتوت ليتصدق على أهل البيت في القرن العشرين بأن يجعل الإمام الصادق إماماً خامساً مع الأئمة الأربعة ، مع أن أهل البيت (ع) لا يقبلون الصدقة.
  لقد تعجبت فعلاً عند ما رددت أسماءهم في نفسي (مالك ، أبو حنيفة ، الشافعي ، أحمد بن حنبل) فمعظمهم مشكوك في عروبته ناهيك عن كونه من آل البيت ، ثم نتباهى بحب ذرية الرسول (ص) ، أي حب هذا الذي لم يورثنا الثقة في علمهم وجدارتهم ، ومن الغريب أيضاً إننا لم نقبل حق أهل البيت في الخلافة ، متمسكين بأن الحق لا يثبت بمجرد القرابة ، فإن كان الحق لا يثب بالقرابة فالحب لا يكون أيضاً لمجرد القرابة ، إلا إذا كان حبنا مجرد أدعاء أجوف ، إما إذا اعترفنا بأن هنالك مكانة خاصة ومرتبة رفيعة تؤهلهم للحب غير قرابتهم من رسول الله (ص) فهو نفسه يؤهلهم إلى مرتبة الإمامة ، هذا مع أن الواقع التاريخي يثبت إن أئمة المذاهب الأربعة بدءاً من مالك وانتهاءاً بابن حنبل يدينون بالفضل والأعلمية لأهل البيت عليهم السلام فإن كان للأربعة علم فهو من نفحات أهل البيت عليهم السلام مما يكشف لنا مأساة التاريخ الأعمى الذي لا ينظر إلا بعيون السلطة ، فإن كان بنظر أهل السنة لا يوجد في أهل البيت فقهاء ، ألا يوجد فيهم علماء في العقائد والحديث ومعارف القرآن فمن أئمة العقائد والتفسير والحديث عندنا ؟ ... لا يوجد من بينهم واحد من أهل البيت (ع) فهل يحق لأهل السنة بعد ذلك أن يدعوا أنهم محبون لأهل البيت.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 80 _

الشعائر الحسينية

  حسمت لي تلك النقاشات مع بعض الإطلاع أحقية المذهب الشيعي بجدارة ، ولم يكن بيني وبين الإلتزام الكامل إلا بعض الإشكالات الطفيفة التي لا تمس بالجوهر ، مثل بعض الممارسات الشيعية في شهر محرم من اللطم على الصدور وضرب الرؤوس بالسيوف ، فسألت خالي وأنا مستنكرة لهذا الأمر ، كيف يجوز الشيعة فعل ذلك ، ورسول الله (ص) يقول : (ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود ودعا بدعوة الجاهلية).
  خالي : أولاً هذا نقاش فقهي داخل الدائرة الشيعية ، ما يعني أن الشيعة ملزمون باستنباط أحكامهم الشرعية فيما ورد عندهم من الأحاديث المروية عن رسول الله (ص) وأهل البيت (ع) ، والحديث الذي ذكرتِه هو من أحاديث أهل السنة فهو ملزم لهم وليس للشيعة ، كما تقول القاعدة ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.
  وثانياً : إذا سلمنا بهذا الحديث فهو بعيد كل البعد عن مورد الاستدلال والاعتراض ، فالحديث يتكون من ثلاث محاور أساسية فإن اجتمعت في موضوع واحد تتعلق به الحرمة والنهي ، وهي (شق الجيوب ـ ولطم الخدود ـ ودعوة الجاهلية) والدليل على الاقتران هو رف العطف فإن كان شق الجيب لوحده حرام وكذا لطم الخد لكان من المفترض استخدام رف (أو) فيكون الحدين ( ... من شق الجيوب أو لطم الخدود أو دعا بدعوة الجاهلية) فبالتالي لا تنصب الحرمة على شق الجيب إلا بعنوان دعوة الجاهلية أما من شق جيبه بل شق كل ملابسه ، ولطم خده لأي سبب يراه أو مصلحة يجلبها لنفسه أو حتى عبثاً ، ولم يدعوا بدعوة الجاهلية ، لا يكون ملاماً أو معاتباً ، وأكثر ما يقال فيه إذا لم يكن هناك حكمة عقلائية إنه

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 81 _

  مجنون ، فإذاً ليس شق الجيب ولطم الخد بمعزل عن دعاء الجاهلية ، هو الذي تدور عليه الحرمة ، وإنما تتحقق الحرمة ويتعلق النهي عن هذه التصرفات مع الدعاء بدعوة الجاهلية ، وكذلك لا يكون الأمر محصوراً في شق الجيب ولطم الخد ، فالذي يضرب رأسه ويشد شعره ويدعو بدعوة الجاهلية كذلك يشمله الحديث ومن هنا كان محور الحرمة ومناط الحكم هو دعوة الجاهلية مع شق الجيب أو ضرب الرأس أو أي تصرف آخر ، و إلا حكمنا بجواز من يحثوا التراب على رأسه ويدعوا بدعوة الجاهلية ، فالحديث بعيد عن تصرفات الشيعة أيام محرم ، لأنهم لا يدعون بدعوة الجاهلية ، فهم لا يدعون اللآت والعزة ومنات وهبل ، ولا يدعون باسم العصبية القبلية ولا كل العادات التي ذمها الإسلام ، وإنما يدعون بدعوة الإسلام ، ودعوة التوحيد ويبكون على مصائب أهل البيت التي هي مصائب الإسلام ، فالحديث بعيد عنهم.
  قلت : ولكن ليس هناك أحد من كل العقلاء يستحسن ما يفعله الشيعة بل يستقبحونه ، ألا يكفي حكم العقلاء لتحريمه.
  خالي : أولاً : إذا نظرنا إلى حكم العقل بعيداً عن العقلاء فإن العقل لا يرى فيه قبحاً لأن العقل إذا نظر إلى أمر نظر له وهو مجرد عن كل العناوين وكل الاعتبارات فإذا جردنا هذه التصرفات من كل عناوينها ، لا يتمكن العقل من الحكم عليها لأنها من الأمور الغير ذاتية القبح أو الحسن كالعدل والظلم وإنما من الأمور التي يدور حكم العقل فيها مع العنوان ، فمثلاً (الضرب) كموضوع إذا نظرنا له بعيداً عن أي اعتبار ليس هو قبيحاً وليس هو حسناً ، فإذا كان الضرب مع عنوان التأديب فهو حسن ، والضرب نفسه مع عنوان الإيذاء والظلم فهو قبيح ، فبالتالي الحسن والقبح يدور مدار العنوان ، كذلك بعض الشعائر

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 82 _

  الحسينية ، فهي أما أن تكون بعنوان أحياء أمر أهل البيت وبالتالي أحياء الإسلام ، وإما بأي عنوان سلبي آخر ، فإن كانت بالأول فهي حسنة وإن كان بالثاني فهي قبيحة ، وأظن أن الأمر واضح أن هذه الشعائر بالقصد الأول.
  أما حكم العقلاء فهو دائر مدار المصلحة العامة من الفعل أو المفسدة ، ولا يرى العقلاء أي مفسدة في أن يقوم مجموعة من الناس بشعيرة معينة لمصلحة تخصهم ، كما لا يرى مانع أن يخترع مجوعة من الناس احتفالاً يعظمون فيه أمراً ما ، مثلاً كأس العالم في كرة القدم الذي يقوم كل أربعة سنوات بإجراء منافسات دولية ينشغل بها كل العالم ، فلا يستقبح العقلاء هذا الأمر.
  أما حكم العرف والذوق والميل والحب والكراهية كلها عناوين لا يمكنها تشكيل معيار لمحاكمة أي قضية ، فإذا كان هناك عرف لا يحبذ الشعائر الحسينية فهناك عرف آخر يحبذها بل يحترمها ، وكذا الحب والكراهية فما تحبينه أنتِ يكرهه الآخر ، فمن الخطأ أن نحاكم الشيعة برغباتنا الخاصة.
  قلت : ولكن الأمر يصل إلى حد الضرر كضرب الرؤوس بالسيوف ، وهذه مفسدة واضحة لأن فيها ضرر ، وقد نها رسول الله (ص) عنه وقال : (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).
  خالي : إذا نظرنا إلى هذا الحديث وأمعنا فيه النظر نجد إن الاستدلال بهذا الحديث يكون كالتالي (كل ضرر حرام ، وضرب الرأس بالسيف ضرر ، إذاً هو حرام) وهذا قياس منطقي واضح فإذا كان (كل إنسان يموت ، وزيد إنسان ، إذاً زيد حتماً يموت) ، أليس كذلك.
  قلت : نعم فكيف تجوزونه إذاً

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 83 _

  خالي : مهلاً ولا تتعجلي ، حتى يكون هذا الأمر صحيحاً والقياس تاماً لا بد أن تكون الكبرى سليمة كما يسمونها في المنطق وهي (كل ضرر حرام) فهل كل ضرر على إطلاقه حرام ، فإذا كان كذلك لتوقفت كل الحياة وليست الشعائر الحسينية لوحدها لأن الضرر نسبي ، فكل فعل يفعله الإنسان فيه ضرر ، ففي الأكل ضرر كما قال رسول الله (ص) ما ملأ بن آدم وعاء أشر من بطنه ، و في عدمه ضرر ، والنوم الكثير ضرر والقليل كذلك وفي القراءة ضرر وفي عدمها ضرر ، وكذلك هناك أفعال في فعلها ضرر وفي تركها منفعة ولكنها ليست حرام بإجماع الأمة ، مثل أكل بعض المأكولات الضارة كالشحوم ، والفلفل الحار ، والسكر الأبيض وعشرات الأسماء فمع أمكان الإنسان التخلي عنها إلا أنه ليس ملزماً ، وباختصار ليس هنالك فعل إلا فيه ضرر ، مما يدعونا إلى التفكير في معنى الضرر المقصود في الحديث ، وهنا نتعرف على أن الضرر نوعين ضرر حتمي وضرر غير حتمي أو بمعنى ضرر مسموح به وضرر غير مسموح به ، فالضرر الحرام المقصود في الحديث هو الضرر الحتمي بمعنى حتماً يؤدي إلى هلاك الإنسان مثل أن يشرب الإنسان كأس من السم ، أما الضرر الغير حتمي هو أن يشرب الإنسان مثلاً كأساً من القهوة ، فمع أنه فيه نسبة من الضرر إلا أنه ضرر مأذون به قاطعته قائلة : ولكن في ضرب الرأس بالسيف ضرر حتمي فمن الممكن أن تصادف الضربة شريان مما يؤدي إلى النزف المتواصل فيؤدي إلى موته.
  خالي : هذا الاحتمال غير وارد ولا يعول عليه ، لأن الاحتمال نوعان ، احتمال عقلائي واحتمال غير عقلائي ، والفرق بين الأثنين أن الأول احتمال قائم على مجموعة من المبادئ العلمية

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 84 _

  والثاني عكسه ، فمن المحتمل أن يقع هذا البيت على رؤوسنا فهل نركض خارج الغرفة.
  قلت : لا وأنا ضاحكة لأن هذا مجرد احتمال سخيف.
  خالي : وإذا قال لك مهندس مختص بأن أعمدت البيت لا يمكنها حمل هذه الغرفة أكثر من يوم مثلاً فهل تغادرينها ؟
  قلت : نعم وإذا بقيت أكون رميت بنفسي في التهلكة.
  خالي : هذا هو بالضبط الفرق بين الاحتمالين ، فقولك من المحتمل أن تقطع الضربة شريان ، هو كالقول من المحتمل أن تصدمك سيارة إذا عبرتِ الشارع ، فهل تتوقفين عن العبور.
  قلت : لكن يا خالي ، إذا نظر إنسان إلى منظرهم وهم مضرجين بالدماء في منظر تشمئز منه القلوب وخاصة غير المسلم ، مما يجعله يستهجن هذا الدين الذي يجعل أتباعه غارقين في الدماء.
  خالي : نعم معكِ حق أن هذا المنظر الذي يخرج به المطبرون كما يسمونهم ، منظر تشمئز منه القلوب ، ولكن ليس عليهم عتاب ، ولكي تعرفي ذلك لا بد لنا النظر في الجذر الثقافي الذي يرتكز عليه التطبير ، فهو لا يعدوا كونه عملاً فنياً ولوحةً أبداعيةً تحاول أن تقترب من مأساة كربلاء ، فإذا أحضرنا مجموعة من الرسامين وكلفناهم برسم واقعة كربلاء ، فما هي اللوحات التي تتوقعين أن يرسموها ، غير رؤوس مقطعة وأيادي مبتورة وخيام محرقة ونساء مفجوعة ، فهل يحق لنا أن نعاتبهم على تلك الرسومات ونقول كان أجدر بكم أن ترسموا لنا حدائق ومياه وزهور ، فالقبح إذاً ليس في اللوحة وإنما القبح في الواقع الذي حاولت أن تجسده اللوحة ، وإن صدق ذلك على اللوحة الورقية يصدق أيضاً على اللوحة التي يشترك مجموعة من الناس في إخراجها كالعمل الدرامي مثلاً ، فهذا الموكب

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 85 _

  الدرامي الذي يتكون من مجموعة من الناس لابسين الأكفان وهي ملطخة بالدماء وحاملين السيوف ، حقاً منظراً تشمئز منه النفوس ولكن ليس القبح فيه وإنما القبح في ذلك الواقع التاريخي وفي تلك المعركة المفجعة فالمأساة ليست في التطبير وإنما هي في كربلاء ، فهل نغير حقيقة كربلاء أيضاً.
  قلت : هذا الكلام بصورته النظرية مقنع ولكن عملياً أرى أنه بعيد ، فأنا لا أتصور أن يدفعني أمر للقيام بضرب رأسي بالسيف.
  خالي : الفعل يصدر من الإنسان عندما تكون هناك تهيئة نفسية تناسب الفعل ، فإذا لم تتحقق فإن الدوافع النظرية ليست كافية ، فكثير من الأمور نعتقد بها نظرياً لكن لا نمارسها إلا إذا كانت هناك تهيئة نفسية ، فمثلاً ضرورة الأكل مقدمة نظرية ولكن لا يقدم الإنسان على الأكل إلا إذا كان جائعاً مما تستعد نفسه للقيام بالأكل ، وكذا الأمثلة كثيرة ، فنحن خلافنا مع الذين يستنكرون هذه الشعائر خلاف نظري وليس عملي فلم نطلب منهم المشاركة ، ومن هنا كان النقاش النظري ضرورياً معهم ، أما التهيئة النفسية فتحتاج إلى مقدمات من نوع آخر ، فمثلاً الصوت الجميل في تلاوة القرآن يخلق جواً تهيج معه النفس مما يجعلها تبكي ، وكذا الأغاني فإنها تطرب النفس فتكون مقدمة للرقص ، وكذلك في محرم عندما يعيش الإنسان أجواء كربلاء ويستنشق روائح تلك الدماء الزاكيات ، وتعلوا النداءات بثارات الحسين وتدق طبول الحرب تهيئ الإنسان نفسياً للقيام بتلك الشعائر التي تكون تعبيراً صادقاً لما يجول في نفسه من حب للإمام الحسين عليه السلام.

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 86 _

الحسين (ع) الدمعة الجارية

  ترددت كثيراً في تسجيل تجربتي الأولى مع الإمام الحسين (ع) ، وكلما أبدأ بالكتابة تهرب الكلمات من تحت سنان قلمي ، وتبقى المأساةمكتومة في داخل نفسي فلا معين أطيل معه العويل و البكاء ولا جَزُوعٍ فأساعد جزعهُ إذا خلأ ، فتمتزج البسمة عندي بالدمعة ويحتل الحزن مكان الفرحة ، وتتبدل كل أهازيج البشرى بأنين الحزن الدائم ، ففي ميلاده سكبت عبرة ... ومازالت تلك العبرة ... وفي استشهاده وفي ذكراه تعلوا العبرة ... فللحسين مجداً مكتوب من الأزل الأبدي لا ينال إلا بالدمع الأحمر (يا حسين أعلم أن لك عند الله أجراً لا تبلغه إلا بالشهادة).
  قبل أن أعيش في رحاب التشيع وأهتدي إلى مذهب أهل البيت (ع) لم أكن أعرف عن الحسين إلى ما درسناه في المدارس ، وهي قصة مجتزأة تعبر عن الكبت الدائم لقضية كربلاء ، أذكر أنني كنت في الرابعة الإبتدائي فحاول الأستاذ تبعاً للمنهج أن يطوي كل ذلك التاريخ في قوله أن يزيد قتل الإمام الحسين عليه السلام وأولاده وسبى نساءه ، في معركة تسمى كربلاء ، فسألت طالبة مسيحية بدهشة كيف تجوزون قتل ابن بنت نبيكم ؟ ، فدمعت عيناي دون أن أشعر فكانت تلك أول دمعة في مصاب الإمام الحسين (ع) ، فقال الأستاذ ذلك قدر الله على هذه الأمة ...
  قدر الله أم غدر الأمة التي لم تحفظ رسول الله في ذريته وهو القائل (أوصيكم الله في أهل بيتي) وقال الله تعالى في حقهم) قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) أيقتل روحي له الفداء في أبشع صورة مرت على تاريخ البشرية وهو الذي قال فيه رسول الله (ص) (حسين مني وأنا من حسين أحب الله

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 87 _

  من أحب حسينا) وقال (الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة) و (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) وعندما قال رجل للحسين (ع) وهو راكب على ظهر رسول الله (ص) نعم المركب مركب ، فقال رسول الله: ونعم الراكب هو ، فالأمة التي تجرأت على قتل الحسين (ع) هي نفسها يمكنها قتل الرسول.
  فبقت تلك الدمعة وحيدة حتى جاء اليوم الذي عشت فيه مأساةكربلاء بتفاصيلها ، حيث ما تزال ظلالها الحزينة ترافق ظلي إلى اليوم ، تاركة أثاراً عميقة في نفسي ، كنا في شهر محرم الحرام في السيدة زينب والسواد يغطي الساحات و الكل حزين يهتف يا لثارات الحسين ، فانتقل بي الزمان حتى كأني أرى كربلاء بأم عيني صورة لا تحكى ومنظر لا يصور ، عشت لحظات في فيافي دمائها الحمراء أواسي نساء الهاشميات فبكيت معهن حتى نبض الدمع مني وحينها رجع صدى النفس يردد يا ليتنا كنا معك فنفوز فوزاً عظيماً.
  فعاشوراء لم تمت بل هي حاضرة في وجدان هذه الأمة ، يلوح من أريج دمائها الذاكية الصمود والإباء ، وفي أعتابها شموخ الإيمان على الكفر ، وفي لهواتها انتصار الحق على الباطل ، وعلى أشراف أبوابها كان نهج الحق وراية العدل ترفرف مدى الأزمان فكل أيامنا عاشوراء وكل بقعة من بقاع الأرض كربلاء ، فهي أعظم من أن تكون حبيسة التاريخ ، وأكبر من أن يكون الزمان قيدا على عنفوان تحديها فهي شاهدا حيا على كل العصور.
  فعام 61 للهجرة هو بداية المأساة ولكن لم يكن هو النهاية فلم تزل حاضرة بكل ماساتها عبر السنين ، ففي كربلاء يتجلى الإسلام بأسمى معانيه ، وتضيق عندها المسافة بين الإنسان

من حقّي أن أكون شيعيّة _ 88 _

  والقيم ، وتقترب فيها السماء من الأرض ، فكانت تضحيات الحسين جسرا ) يقرب الإنسان من العالم المعنوي والأفق الأعلى بما لا يقرب به شيء آخر.
  فللحسين قضيتان قضية الجسد المقطع وقضية الحق المضيع ، وفي كربلاء اختلطت القيم بالدماء والعدل بالشهادة ، ولكي يرفع الحق رفعت هامة الحسين على سنان الرماح ، فلا وجود للمسيرة من غير والوقوف على أشلاء كربلاء ، وليس هناك مأساة تبكي من غير تلك المسيرة التي كان الحسين قربان لها (اللهم تقبل هذا القربان من آل محمد) فكانت المأساة بحجم المسيرة وكانت التضحية بقدر المنهج.
  فأصبح الحسين (ع) هو نهجي ... وعاشوراء هي شعاري ، وتربته الطاهرة أضعها تحت جبيني في سجودي ، لكي أبقى دوماً مع الحسين وألقى الله مع الحسين.