الفهرس العام

الوجـه التاريخي



  ثـمّ إنّه بقـي وجـه آخـر أو أخير يتمسّـك به القـائل بعدالة الصحابة ، ـ بالترديد المتقدّم في معنى العدالة وفي دائرة الصحابة المرادة لذلك القائل ـ وهو : إنّ الصحابة هم الّذين قاموا بفتوحات الإسلام ونشر الدين في أرجاء المعمورة ، وهذا بعدما عانوا ما عانوا مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغزوات الأُولى ...
  وهذا الوجه ـ مع غضّ النظر عن التحليل الآتي فيه ، وعن الخوض في حقيقته ـ ما هو المقدار اللازم منه في الحجّيّة المبحوث عنها في عدالة الصحابة ، فقد تقدّم أنّ صدور العمل الصالح أو الحسن من شخص ـ بعد افتراض ذلك ـ لا يلازم عدالته واستقامته في كلّ أفعاله الأُخرى ، فضلا عن عصمته وإمامته في الدين.
  ففي كثير من الغزوات التي قام بها المسلمون في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ارتكب مَن صحبه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها أعمالا تعدّ في الشرع من الخطايا الكبيرة

عدالة الصحابة _ 142 _

  المغلّظة عقوبتها ، وقد ذكرنا شطراً منها في ما سلف ، ونذكر هنا شطراً آخر منهـا :
  قوله تعالى : ( ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسّـكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) (1).
  والآية تبيّن أنّ الواجب على المسلمين الإثخان في قتل المشركين ، وعدم أخذ الأسرى والحرب قائمة قبل أنّ ينهدّ صفّ المشركين ويستولي عليهم الرعب.
  وقد وصفت الآية أنّ العقوبة لولا عفو الله تعالى لكانت عذاب ، ووصـفته بالعظـيم ، وظاهر الآية وبمقتضـى الإثخان هو : كون الواجب القتل لا الأسر أثناء قيام الحرب مع المشركين وقبل انتهائها بتقويض معسكرهم ، لا ما يقال : إنّ الآية ناظرة إلى حكم الأسرى بعد انتهاء الواقعة ، وإنّ الواجب هو قتلهم لا مفاداتهم ، لأنّه يخالف الآيات اللاحقة : ( يا أيّها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلَمِ اللهُ في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً ممّا أُخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم * وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكنَ منهم والله عليم حكيم ) (2) ، الدالّة على أنّ القتل المطلوب هو أثناء الحرب لا بعد أنّ تضع الحرب أوزارها.
  وكلّ هذا في غزوة ( بدر ) ، وكذلك الحال في غزوة ( حنين ) ، قال تعالى : ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغنِ عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحُبَت ثمّ

---------------------------
(1) سورة الأنفال 8 : 67 و 68.
(2) سورة الأنفال 8 : 70 و 71.

عدالة الصحابة _ 143 _

  ولّيتم مدبرين ) (1) ، والفرار في اللقاء من الكبائر التي توعّد الله عليها النار ، كما في قوله تعالى : ( يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم الّذين كفروا زحفـاً فلا تولّوهم الأدبار * ومن يولّهم يومئذ دبُرَهُ إلاّ متحرّفاً لقتال أو متحيّزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير ) (2).
  وكذلك الحال في غزوة ( أُحد ) كما أشرنا إليه سابقاً في سورة آل عمران ، وقد قتل خالد بن الوليد بني جذيمة في فتح مكّة حينما بعثه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حولها في سرايا تدعو إلى الله تعالى ولم يأمرهم بقتال ، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعياً ولم يبعثه مقاتلا ، فغدر خالد بهم وقتلهم ، فانتهى الخبر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرفع يديه إلى السماء ثمّ قال : ( اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد ) ثلاث مرّات ، ثمّ أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّـاً (عليه السلام) فودى لهم الدماء وأرضاهم (3).
  فتبيّن أن لا تلازم بين صدور العمل الصالح ـ على تقدير ثبوته ـ وبين استقامة الشخص في بقيّة أعماله ، فضلا عن عصمته وإمامته في الدين.
  أمّا الخوض في الفتوحات بشكل إجمالي فالنظرة المقابلة تقيّم الفتوحات التي حصلت بأنّها كانت بمثابة سدوداً أمام انتشار الدين في كلّ أرجاء المعمورة ، فإنّ هذا الدين الحنيف لا يصمد أمام بريق نوره الأقوام البشريّة إلاّ وتنجذب إليه ، وهذا هو عمدة نهج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوته إلى الإسـلام ...

---------------------------
(1) سورة التوبة 9 : 25.
(2) سورة الأنفال 8 : 15 و 16.
(3) المغازي للواقدي ـ 3/875 ـ 884.

عدالة الصحابة _ 144 _

  قال تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ) (1) ، فالدخول الفوجي الأفواجي للناس كان بحكم الانجذاب إلى عظمة الدين ، والمثالية التي يتّصف بها صاحب الدعوة ، والكيان الداخلي الذي بناه ...
  إلاّ إنّ مجموع الممارسات في أحداث الفتوحات كبّلت الدين ، وألبست الإسلام أثواباً قاتمة ، وولّدت انطباعاً لدى بقيّة الأُمم والملل أنّ الدين الحنيف هذا هو دين السيف والدم ، ولغته لغة القوّة بالدرجة الأُولى وفي القاعدة الأصلية له ، لا أنّه دين الفطرة العقلية ، ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) (2).
  ومن ثمّ أخذت بعض الكتابات في العالم العربي الإسلامي منذ نصف قرن في التنكّر لقانون الجهاد الابتدائي في الإسلام ، باعتبار أنّه يعني لغة القوّة والعنف والعسكر ، ورفضاً للغة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، التي هي من الثوابت الأوّلية لطريقة الدعوة إلى الإسلام ، وربّما تمسّكوا بسيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع غزواته ; إذ إنّها لم تكن مبتدأة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل من مناوشات الكفّار أوّلا للمسلمين ، وبذيل بعض الآيات من قبيل قوله تعالى : ( وقاتلوا في سبيل الله الّذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين ) (3) ...
  وقوله تعالى : ( لا ينهاكم الله عن الّذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ

---------------------------
(1) سورة النصر 110 : 1 و 2.
(2) سورة الروم 30 : 30.
(3) سورة البقرة 2 : 190.

عدالة الصحابة _ 145 _

  المقسطين * إنّما ينهاكم الله عن الّذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأُولئك هم الظالمون ) (1) ...
  ونحوها من الآيات التي ظاهرها يوهم بأنّ القتال مخصوص بالمدافعة ، وقد تسرّب مثل هذا النظر إلى بعض الأوساط الفقهيّة.
  والذي أوقعهم في مثل هذا الوهم المخالف للمسلّمات الفقهيّة في الدين ، هو ما جرى من الأحداث والممارسات في الفتوحات عبر تاريخ المسلمين ...
  فإنّه قد وقع الخلط لديهم بين الجهاد الابتدائي وبين العدوان المبتدأ ، وحصر الدفاع في الجهاد الدفاعي ، مع إنّ الجهاد الابتدائي ليس بمعنى الابتداء بالعدوان ، بل إنّ الغطاء الحقوقي للجهاد الابتدائي هو الدفاع الحقوقي ، وإنّ كان ابتداء الحرب من المسلمين بمعنى الضغط على الكفّار تحت تأثير القوّة ، لكن ليس هو ابتداء عدوان ، بل ابتداء الضغط بالقوّة لردّ العدوان الذي مارسه الكفّار تجاه المسلمين في ما سبق ، فالابتداء في استخدام القوّة أمر ، والابتداء في العدوان أمر آخر ...
  وأمّا التمسّك بسيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلقد خلط أصحاب هذه المقولة بين الجهاد الابتدائي في مصطلح الفقهاء وبين العدوان الابتدائي الحقوقي ، فالثاني لم يكن في سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أمّا الأوّل ، فغزوة ( بدر ) أعظم الغزوات كانت ابتداء في استخدام القوّة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ردّاً على مصادرة أموال المسلمين في مكّة التي قام بها كفّار قريش ، وردّاً على الغارات المباغتة التي كان يقوم

---------------------------
(1) سورة الممتحنة 60 : 8 و 9.

عدالة الصحابة _ 146 _

  بها أفراد منهم على أطراف المدينة ، ونحو ذلك ، لكنّ ذلك لا يستوجب تصنيف غزوة ( بدر ) في الجهاد الدفاعي وإخراجه عن الابتدائي بالمصطلح الفقهي ، إذ لكلّ شرائط تختلف عن الآخر ، وكذا غزوة ( خيبر ) وغزوة ( حنين ) وغزوة ( تبوك ) وغيرها من الغزوات الكبرى أو الوسطى والصغيرة ، وقوله تعالى في سورة الأنفال صريح في ذلك : ( كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحقّ بعد ما تبيّن كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون * وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنّها لكم وتودّون أنّ غير ذاتِ الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحقّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) (1) ، فإنّ خروج قريش للحرب كان بعد انتداب أبي سفيان لحماية قافلة التجارة التي كان فيها عندما سمع بخروج المسلمين للاستيلاء عليها ابتداءً انتقاماً لِما فعل المشركون بهم.
  وقوله تعالى : ( فليقاتل في سبيل الله الّذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً * وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الّذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيراً ) (2).
  فإنّ هذه الآيات تفيد الغطاء الحقوقي الدفاعي للجهاد الابتدائي.
  وكذا قوله تعالى : ( يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما

---------------------------
(1) سورة الأنفال 8 : 5 ـ 8.
(2) سورة النساء 4 : 74 ـ 76.

عدالة الصحابة _ 147 _

  متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل * إلاّ تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضرّوه شيئاً والله على كلّ شيء قدير ) (1).
  و ( انفروا خفافاً وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) (2).
  و ( قاتلوا الّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أُوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) (3).
  وتمـام الكلام في أدلّة الجهاد الابتـدائي موكول إلى الكتب الفقهيـة ، إلاّ أنّ الغرض في المقام الإشارة إلى أنّ الخلط الذي حصل كان بسبب عدم التمييز بين الجهاد الابتدائي على مستوى التنظير وسيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)والفلسفة الحقوقية التي تنطلق منها مشروعيّته ، وبين ما حصل من ممارسة في فتوحات البلدان ، فإنّ الانطباع الذي أورثته تلك الممارسات في أذهان الأُمم الأُخرى عاد عقبة كؤوداً أمام انتشار الدين الإسلامي في أرجاء المعمـورة.
  فالدين الإسلامي ـ بناءً على هذا الانطباع ـ غطاء يحرز من وراءه جمع الثروات ، واستعباد البشر في صورة الرقيق ، ولقضاء النزوات بعنوان ملك الإماء ، فيهلك الحرث في البلدان ، ويبيد النسل البشري فيها ، وتحت ركام هذه الصورة حاولت تلك المجموعة من المثقّفين والكتّاب في الدول الإسلاميّة القيام بعملية الغسيل ، وتمييز الوجه الناصع للدين الحنيف عن

---------------------------
(1) سورة التوبة 9 : 38 و 39.
(2) سورة التوبة 9 : 41.
(3) سورة التوبة 9 : 29.

عدالة الصحابة _ 148 _

  تلك الممارسات ، لكنّها خلطت بين حقيقة الجهاد الابتدائي وفلسفته الحقوقية التي ينطلق منها ، وبين ما حصل من ممارسات باسم الجهاد الابتدائي في الفتوحات التي جرت ، ونضع القارئ أمام النقاط التالية كي يتبيّن له حقيقة الحال :
  الأُولى :
  إنّ أغراض هذا التشريع للجهاد الابتدائي كما تدلّ عليه مجموع الآيات القرآنية المتعرّضة للجهاد الابتدائي ـ والتي تقدّمت الإشارة إلى بعضـها ـ في الدين الحنـيف ، كما في قوله تعالى : ( يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبيّنوا إنّ الله كان بما تعملون خبيراً ) (1) ...
  فإنّ هذه الآية تحدّد مَعلماً مهمّاً من معالم الجهاد ، وإنّ الغرض فيه ليس جمع الغنائم والأموال والاسترقاق ، بل قيادة الجموع البشرية وهدايتها إلى طريق الله وعبادته.
  وكذا قوله تعالى : ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألّد الخصام * وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد * وإذا قيل له اتّقِ الله أخذته العزّة بالأثم فحسْبه جهنّم ولبئس المهاد ) (2).
  وهذه ملحمة قرآنية عمّن هو في الصفوف مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو عسل اللسان والكلام ، ولكنّ قلبه مخالف تماماً لِما يظهره على لسانه ، وهو شديد العداوة لله ولرسوله ، والآية تُخبر أنّه إذا تولّى الأُمور فسوف يكون

---------------------------
(1) سورة النساء 4 : 94.
(2) سورة البقرة 2 : 204 ـ 206.

عدالة الصحابة _ 149 _

  سعيه في ولايته فساداً في الأرض وإهلاكاً للحرث والنسل البشري ، والحال إنّ الله تعالى لا يحبّ الفساد في التكوين ، وإنّ خاصية هذا المتولّي التعصّب لفِعله أمام نصيحة الآخرين له.
  كما إنّ هذه الآية تحدّد أغراض الدين ـ بما فيه الجهاد الابتدائي ـ بأنّه ليس للإفساد في الأرض وإهلاك الموارد الطبيعية أو الإنجازات المدنية التي حقّقها البشر ، ولا الهدف تبديد النسل.
  وكذا قوله تعالى : ( فإذا أُنزلت سورة محكمة وذُكر فيها القتال رأيت الّذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت فأَوْلى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم * فهل عسيتم إن تولّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقـطّعوا أرحامكم * أُولئـك الّذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم * أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها * إنّ الّذين ارتدّوا على أدبارهم من بعدما تبيّن لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم * ذلك بأنّـهم قالوا للّذين كرهوا ما نزّل الله سـنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسـرارهم * فكيف إذا توفّتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنّهم اتّبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالـهم * أم حسب الّذين في قلوبهم مرض أن لن يُخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ) (1).
  فهذه الآيات ترسم ملحمة مستقبلية لجماعة ( الّذين في قلوبهم

---------------------------
(1) سورة محمّـد 47 : 20 ـ 30.

عدالة الصحابة _ 150 _

  مرض ) ، وهذه الجماعة قد أشار إليها القرآن الكريم في سورة المدّثّر ، رابع سورة نزلت على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في أوائل البعثة الشريفة في مكّة المكرّمة ، وأعلن وجودها في صفوف الثلّة الأُولى التي أسلمت ...
  قال تعالى : ( عليها تسـعة عشـر * وما جعلنا أصحاب النار إلاّ ملائكة وما جعلنا عدّتهم إلاّ فتنة للّذين كفروا ليستيقن الّذين أُوتوا الكتاب ويزداد الّذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الّذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربّك إلاّ هو وما هي إلاّ ذكرى للبشـر ) (1).
  فإنّ الآيات تبيّن أنّ المخاطب بعدّة الملائكة الموكّلين بالنار على أربعة أقسام ، الأوّل : ( الّذين آمنوا ) ، والثاني : ( الّذين أُوتوا الكتاب ) ، والثالث : ( الّذين في قلوبهم مرض ) ، والرابع : ( الكافرون ) ، وتخبر أنّ الذي سيحصل له الإيمان هما القسمان الأوّلان ، أمّا القسمان الآخران فسيحصل لديهما الارتياب.
  ومن الواضح أنّ المرض الذي في القلب نحوٌ من النفاق الخفيّ جدّاً ، أي الذي لا يظهر على صاحبه ، بل يبطنه في قلبه وخفاء أعماله ، وقد ذكرنا أنّ الآيات القرآنية تتابع هذه الفئة والجماعة في كثير من السور ، تحت هذا العنوان وبهذا الاسم إلى آخر حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول القرآن ...
  والآيات هنا من سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) تبيّن أنّ غرض هذه الفئة هو تولّي الأُمور والأخذ بزمامها ، وأنّ ذلك الغرض هو وراء انضمامها إلى

---------------------------
(1) سورة المدّثّر 74 : 30 و 31.

عدالة الصحابة _ 151 _

  صفوف المسلمين الأوائل ، إذ إنّ خبر ظفر النبيّ المبعوث (صلى الله عليه وآله وسلم) كان منتشراً قبل البعثة ، كما يشير إليه قوله تعالى : ( وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) (1).
  فقد أشارت الآية إلى أنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون وينتظرون ويطلبون الفتح والنصر والظفر بالنبيّ ـ الذي سيبعث خاتماً ـ على الكافرين من مشركي الجزيرة العربية ، فلمّا عرفوا ذلك وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بُعث كفروا برسالته.
  فالسورة تبيّن أنّ غرض هذه الفئة ( الّذين في قلوبهم مرض ) هو تسلّم مقاليد الأُمور ، وأنّها كانت على اتّصال في الخفاء وارتباط مع فئات معادية علناً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ( ذلك بأنّهم قالوا للّذين كرهوا ... ) ، وكذلك بقية السور المتعرّضة لهذه الفئة بهذا الاسم تشير إلى هذه العلاقات بين هذه الفئة وبين بقية الفئات الأُخرى.
  ثمّ إنّ السورة تبيّن أنّ طابع سياسة الدولة التي يقيمها أفراد هذه الفئة هو الإفساد في الأرض ، وقطع الصلة بمن أمر تعالى بوصلهم ومودّتهم ، كالذي تشير إليه آية 205 من سورة البقرة : ( وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد ).
  فهذه الآيات تحدّد أنّ أغراض الشريعة ـ في أحكامها وقوانينها السياسية ، وأبواب فقه النظام والسياسة الشاملة للجهاد الابتدائي ـ ليس الإفساد في الأرض ، وإهلاك الحرث ، وتبديد النسل البشري ، فإنّ الله يحبّ

---------------------------
(1) سورة البقرة 2 : 89.

عدالة الصحابة _ 152 _

  صلاح الأرض وأهلها ، فهذا هو سبيل الله تعالى الذي أمرت الآيات القرآنية العديدة بالقتال فيه ، وفي سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، لأجل إزالة استضعافهم وإرجاع حقوقهم المغتصـبة.
  الثانية :
  إنّ نظرة سريعة إلى الثروات المتكدّسة من الفتوحات توضّح معالم الأغراض وراءها ، والأُسلوب الممارس فيها ، المباين للنهج المرسوم في الكتاب والسُـنّة النبويّة ، سيرةً وأقوالا ...
  قال العلاّمة الأميني (1) في جرده لثروات عدّة من الأسماء :
  منهم : سـعد بن أبي وقّاص ، قال ابن سعد : ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم ، ومات في قصره بالعقيق.
  وقال المسعودي : بنى داره بالعقيق فرفع سمكها ووسّـع فضائها ، وجعل أعلاها شرفات (2).
  ومنهم : زيد بن ثابت ، قال المسعودي : خلف من الذهب والفضّة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار (3).
  ومنهم : عبـد الرحمـن بن عـوف الزهـري ، قال ابن سـعد : تـرك عبـد الرحمن ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً ، وقال : وكان في ما خلّفه ذهب قطّع بالفؤوس حتّى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة ثمانون ألفاً.

---------------------------
(1) الغدير 8 / 282 ـ 288.
(2) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 105 ، مروج الذهب 1 / 434.
(3) مروج الذهب 1 / 434.

عدالة الصحابة _ 153 _

  وقال المسعودي : ابتنى داره ووسّعها ، وكان على مربطه مائة فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف من الغنم ، وبلغ بعد وفاته ثُمن ماله أربعة وثمانين ألفاً (1).
  ومنهم : يعلى بن أُميّة ، خلّف خمسمائة ألف دينار وديوناً على الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته مائة ألف دينار (2).
  ومنهم : طلحة بن عبيـد الله التيمي ، ابتنى داراً بالكوفة تعرف بالكناس بدار الطلحتين ، وكانت غلّته من العراق كلّ يوم ألف دينار ، وقيل أكثر من ذلك ، وله بناحية سراة أكثر ممّا ذكر ، وشيّد داراً بالمدينة وبناها بالآجر والجصّ والساج ...
  وعن محمّـد بن إبراهيم ، قال : كان طلحة يغلّ بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف ، ويغلّ بالسراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقلّ.
  وقال سفيان بن عيينة : كان غلّته كلّ يوم ألف وافياً ، والوافي وزنه وزن الدينار.
  وعن موسى بن طلحة : إنّه ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار ، وكان ماله قد اغتيل.
  وعن إبراهيم بن محمّـد بن طلحة : كان قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال وما ترك من النافيّ ثلاثين ألف ألف درهم ، ترك من العين ألفي

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 96 ، مروج الذهب 1 / 434 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 146 ، صفة الصفوة ـ لابن الجوزي ـ 1 / 138 ، الرياض النضرة ـ لمحبّ الدين الطبري ـ 2 / 291.
(2) مروج الذهب 1 / 434.

عدالة الصحابة _ 154 _

  ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض.
  وعن عمرو بن العاص : إنّ طلحة ترك مائة بهار في كلّ بهار ثلاثة قناطير ذهب ، وسمعت أنّ البهار : جلد ثور ، وفي لفظ ابن عبـد ربّه من حديث الخشني : وجدوا في تركته ثلاثمائة بهار من ذهب وفضّة.
  وقال ابن الجوزي : خلّف طلحة ثلاثمائة جمل ذهباً.
  وأخرج البلاذري من طريق موسى بن طلحة ، قال : أعطى عثمان طلحة في خلافته مائتي ألف دينار ، وقال عثمان : ويلي على ابن الحضرمية (يعني طلحة) أعطيته كذا وكذا بهاراً ذهباً وهو يروم دمي يحرّض على نفسي (1).
  ومنهم : الزبير بن العوّام ، خلّف ـ كما في صحيح البخاري ـ إحدى عشرة داراً بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، وداراً بالكوفة ، وداراً بمصر ، وكان له أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة بعد رفع الثلث ألف ألف ومائتا ألف ، قال البخاري : فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف ، وقال ابن الهائم : بل الصواب أنّ جميع ماله حسبما فرض : تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألـف (2).

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 158 ، أنساب الأشراف 5 / 7 ، مروج الذهب 1 / 434 ، العقد الفريد 2 / 279 ، الرياض النضرة 2 / 358 ، دول الإسلام ـ للذهبي ـ 1 / 18 ، الخلاصة ـ للخررجي ـ : 152.
(2) صحيح البخاري ـ كتاب الجهاد / باب بركة الغازي في ماله 5 / 21 ، ذكره شرّاح الصـحيح : فتح الباري ، إرشاد الساري ، عمدة القاري ، شذرات الذهب 1 / 43 ، وفي تاريخ ابن كثير 7 / 249 قيّدها بالدرهم.
ولاحظ : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 77 ، ومروج الذهب 1 / 434.

عدالة الصحابة _ 155 _

  ومنهم : عثمان بن عفّان ، قال محمّـد بن ربيعة : رأيت على عثمان مطرف خزّ ثمنه مائة دينار ، فقال : هذا لنائلة كسوتها إيّاه ، فأنا ألبسه أسرّها بـه ...
  وقال أبو عامر سليم : رأيت على عثمان برداً ثمنه مائة دينار.
  قال البلاذري : كان في بيت المال بالمدينة سـفط فيه حليّ وجواهر فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلّموه فيه بكلام شديد ... وجاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضّة فقسّمها بين نسائه وبناته ، وأنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره.
  وقال ابن سعد : كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم ، وخمسون ومائة ألف دينار ، فانتُهبت وذهبت ... وترك ألف بعير بالربذة وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف دينار.
  وقال المسعودي : بنى في المدينة داراً وشيّدها بالجعر والكلس وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالا وجناناً وعيوناً بالمدينة.
  وذكر عبـد الله بن عتبة : إنّ عثمان يوم قتل كان عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم ، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار ، وخلّف خيلا كثيراً وإبلا.
  وقال الذهبي : كان قد صار له أموال عظيمة (رضي الله عنه) ، وله ألف مملوك (1) ...

---------------------------
(1) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 40 و ص 53 ، أنساب الأشراف 3 / 4 ، الاستيعاب ـ في ترجمة عثمان ـ 2 / 476 ، الصواعق المحرقة : 68 ، السيرة الحلبية 2 / 87 ، مروج الذهب 1 / 433 ، دول الإسلام 1 / 12.

عدالة الصحابة _ 156 _

  وأمّا أُعطيات عثمان إبّان حكمه فقد جردها العلاّمة الأميني في غديـره عن المصادر المزبورة ، فقد أعطى :
  1 ـ مروان ، خمسمائة ألف دينار.
  2 ـ ابن أبي سرح ، مائة ألف دينار.
  3 ـ طلحة ، مائتا ألف دينار.
  4 ـ عبـد الرحمن بن عوف ، ألفا ألف وخمسمائة وستّين ألف دينار.
  5 ـ يعلى بن أُميّة ، خمسمائة ألف دينار.
  6 ـ زيد بن ثابت ، مائة ألف دينار.
  7 ـ ما اقتصّه لنفسه في بعض الموارد ، مائة وخمسون ألف دينار.
  8 ـ ما اقتصّه لنفسه في بعض آخر من الموارد ، مائتا ألف دينار.
  ويبلغ المجموع أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار.
  وفي مجموعة أُخرى من الأُعطيات :
  9 ـ الحكم ، ثلاثمائة درهم.
  10 ـ آل الحكم ، ألفا ألف وعشرون درهم.
  11 ـ الحارث ، ثلاثمائة درهم.
  12 ـ سعيد ، مائة ألف درهم.
  13 ـ عبـد الله ، ثلاثمائة ألف درهم.
  14 ـ الوليد بن عقبة ، مائة ألف درهم.
  15 ـ عبـد الله ، مرّة أُخرى ، ستّمائة ألف درهم.
  16 ـ أبو سفيان ، مائتا ألف درهم.
  17 ـ مروان ، مرّة أُخرى ، مائة ألف درهم.

عدالة الصحابة _ 157 _

  18 ـ طلحة ، مرّة أُخرى ، ألفا ألف ومائتا ألف درهم.
  19 ـ طلحة ، مرّة ثالثة ، ثلاثون ألف ألف درهم.
  20 ـ الزبير ، خمسة وتسعون ألف ألف وثمانمائة ألف درهم.
  21 ـ سـعد بن أبي وقّاص ، مائتان وخمسون ألف درهم.
  22 ـ ما اقتصّه لنفسه مرّة ثالثة ، ثلاثون ألف ألف وخمسمائة ألف درهم.
  ويبلغ مجموع المجموعة الثانية مائة وستّة وعشرون مليوناً وسبعمائة وسبعون ألف درهم ، انتهى ملخّصاً.
  فلاحظ تلك المصادر والمراجع وغيرها لاستقصاء الأُعطيات والقطائع !
  وقال الوليد بن عقبة يخاطب بني هاشم في أبيات له :
  قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه كما غدرتْ يوماً بكسرى مرازبُه فأجابه عبـد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبـد المطّلب بأبيات طويلة منها :

وشبَّهته  كسرى وقد كان مثله      شبيهاً بكسرى هَديُه وضرائبُه
  وكان المنصور إذا أنشد هذا البيت يقول: لعن الله الوليد ، هو الذي فرّق بين بني عبـد مناف بهذا الشعر (1).

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 1 / 90.

عدالة الصحابة _ 158 _

  وروى البلاذري : لمّا أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم ، وأعطى زيد ابن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم ، جعل أبو ذرّ يقول : بشِّر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول الله عزّ وجلّ : ( والّذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم ) (1) ... فرفع ذلك مروان ابن الحكم إلى عثمان ، فأرسـل إلى أبي ذرّ ناتلا مولاه : أن انْتهِ عمّا يبلغني عنـك.
  فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، وعَيْبِ من ترك أمر الله ؟! فوالله لأن أُرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أُسخط الله برضاه.
  وكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها ... بعث إليه معاوية حبيب ابن مسلمة الفهري بمائتي دينار ، فقال : أما وجدت أهون عليك منّي حين تبعث إليّ بمال ؟! وردّها.
  وبنى معاوية ( الخضراء ) بدمشق ، فقال : يا معاوية! إن كانت هذه الدار من مال الله ، فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك ، فهذا الإسراف.
  وكان أبو ذرّ يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سُـنّة نبيّه ، والله إنّي لأرى حقّاً يُطفأ وباطلا يُحيا ، وصادقاً يُكذب ، وأثرة بغير تُقىً ، وصالحاً مستأثَراً عليه ...
  فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية : إنّ أبا ذرّ مفسـد عليك الشام فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة ، فكتب معاوية إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان

---------------------------
(1) سورة التوبة 9 : 34.

عدالة الصحابة _ 159 _

  إلى معاوية : أمّا بعد ، فاحمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره !
  فوجّه معاوية من سار به الليل والنهار ، فلمّا قدم أبو ذرّ المدينة جعل يقول : تستعمل الصبيان ، وتحمي الحمى ، وتقرّب أولاد الطلقاء ...
  ثمّ إنّ عثمان نفاه إلى ( الربذة ) ، فلم يزل بها حتّى مات.
  والمقام يطول بذِكر كلّ ما جرى من إنكار أبي ذرّ على عثمان ومعاوية ، فلاحظ المصادر.
  وأخرج البخاري في صحيحه من حديث زيد بن وهب ، قال : مررت بالربذة فقلت لأبي ذرّ : ما أنزلك هذا ؟!
  قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : ( والّذين يكنزون الذهب والفضّـة ) فقال : أُنزلت في أهل الكتاب ، فقلت : فينا وفيهم ، فكتب يشكوني إلى عثمان ، فكتب عثمان : أقدم المدينة ، فقدمت فكثر الناس علَيَّ كأنّهم لم يروني قبل ذلك ، فذُكر ذلك لعثمان فقال : إن شئتَ تنحّيتَ فكنتَ قريباً ، فذلك الذي أنزلني هذا المنزل ...
  قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث : وفي رواية الطبري أنّهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام ، فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام.
  وهكذا الحال في ما جرى من إنكار عمّار وبعض أخلاّئه على عثمان ، فلاحظ المصادر.
  وفي تاريخ الطبري : إنّ أبا بكر لمّا استُخلف قال أبو سفيان : ما لنا ولأبي فصيل ، إنّما هي بنو عبـد مناف ، فقيل له : إنّه قد ولّى ابنك ، قال :

عدالة الصحابة _ 160 _

  وصلته رحم (1).
  ومنهم : خالد بن الوليد ; قال في الإصابة : وكان سبب عزل عمر خالداً ما ذكره الزبير بن بكّار ، قال : كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم ، ولم يرفع إلى أبي بكر حساباً ، أقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته ، فكره ذلك أبو بكر وعرض الدية على متمّم بن نويرة ، وأمر خالد بطلاق امرأة مالك ، ولم يرَ أن يعزله ...
  وفي تاريخ أبي الفداء : فقال عمر لأبي بكر : إنّ سيف خالد فيه رهق ، وأكثر عليه في ذلك ، فقال : يا عمر ! تأوّل فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد ...
  وفي لفظ الطبري : فلمّا بلغ قتلهم عمرَ بن الخطّاب ـ أي قتل مالك ابن نويرة وقومه ـ تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر ، وقال : عدوّ الله ، عدا على امرئ مسلم فقتله ثمّ نزا على امرأته ، وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتّى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد ، معتجراً بعمامة له ، قد غرز في عمامته أسهماً ، فلمّا أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها ، ثمّ قال : أرئاء ؟! قتلت امرأً مسلماً ثمّ نزوت على امرأته ... ثمّ ذكر أنّ أبا بكر عذره.
  وروى ثابت في الدلائل : إنّ خالداً رأى امرأة مالك وكانت فائقة في الجمال ، فقال مالك بعد ذلك لامرأته : قتلتيني.
  وقـال الزمخشري وابن الأثير وأبو الفداء والزبيدي : إنّ مالك بن نويرة (رضي الله عنه) قال لامرأته يوم قتله خالد بن الوليد : أقتلتِني ؟! وكانت جميلة

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 3 / 202.

عدالة الصحابة _ 161 _

  حسناء تزوّجها خالد بعد قتله ، فأنكر ذلك عبـد الله بن عمر ، وقيل فيه :
أفـي  الـحقّ أنّا لم تجفّ iiدماؤنا      وهذا عروساً باليمامة خالد ؟! (1)
  وفي تاريخ ابن شحنة (2) : أمر خالد ضراراً بضرب عنق مالك ، فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد : هذه التي قتلتني ، وكانت في غاية الجمـال.
  فقال خالد : بل قتلك رجوعك عن الإسلام.
  فقال مالك : أنا مسلم.   فقال خالد : يا ضرار ! اضرب عنقه ! فضرب عنقه ، وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي :
ألا  قـل لحيّ أُوطؤا iiبالسنابكِ      تطاول  هذا الليل من بعد iiمالكِ
قـضى خالد بغياً عليه iiبعرسه      وكـان  له فيها هوىً قبل iiذلكِ
فأمضى هواه خالد غير iiعاطف      عـنان الهوى عنها ولا متمالكِ
وأصـبح ذا أهل وأصبح iiمالك      إلى غير أهل هالكاً في الهوالكِ
  فلمّا بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر : إنّ خالداً قد زنى

---------------------------
(1) ولاحظ لمزيد من التفاصيل : تاريخ الطبري 3 / 241 ، الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ـ 3 / 149 ، أُسـد الغابة 4 / 295 ، تاريخ دمشق ـ لابن عساكر ـ 5 / 105 ، خزانة الأدب 1 / 237 ، تاريخ ابن كثير 6 / 321 ، تاريخ الخميس 2 / 233 ، الإصابة 1 / 414 و 3 / 357 ، الفائق 2 / 154 ، النهاية 3 / 257 ، تاريخ أبي الفداء 1 / 158 ، وتاج العروس 8 / 75
(2) في هامش الكامل ـ لابن الأثير ـ 7 / 165.