الكريم في ما يزيد على الثلاثين مورداً في السور القرآنية (1) ، وكذلك هو خُلق الأنبياء ، كما في قوله تعالى في آية المباهلة : ( ثمّ نبْتَهِلْ فنجعلْ لعْنَتَ الله على الكاذبين ) (2) ، وقوله تعالى : ( لُعنَ الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) (3) ...
بل في قوله تعالى : ( إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّنّاه للناس في الكتاب أُولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) (4) دعوة وندب إلى التبرّي من الكاتمين لحقائق الدين والشرائع ولهداية السماء بتوسّـط اللعن هذا ، فضلا عن عشرات الموارد التي لعن فيها سـيّد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) أشخاصاً بأسمائهم ، مثل لعنه أصحاب العقبة وأبي سفيان في سبعة مواطن (5) ، ولعن رسول الله قاتل الحسين (عليه السلام) ، كما رواه الفريقان (6) ...
وقد قال : سعد التفتازاني في شرح العقائد النسفية : ( وإنّما اختلفوا
---------------------------
(1) سورة البقرة 2 : 89 ، سورة النساء 4 : 46 و 47 و 93 و 118 ، سورة المائدة 5 : 13 و 60 ، سورة الأحزاب 33 : 64 ، وغيرها ، فلاحظ مادّة ( ل ع ن ) في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
(2) سورة آل عمران 3 : 61.
(3) سورة المائدة 5 : 78.
(4) سورة البقرة 2 : 159.
(5) الخصال : 397 ـ 398 ح 105.
(6) تاريخ بغداد 3 / 290 ، أُسد الغابة 2 / 22 ، ولاحظ ما رواه في الدرّ المنثور 4 / 191 من الروايات في ذيل الآية : (والشجرة الملعونة) ، وما رواه الخوارزمي في مقتل الحسين 1 / 176 ، وابن عساكر في تاريخ دمشق 4 / 339 ، وابن حجر في لسان الميزان 5 / 377 ، والسيوطي في ذيل اللآلئ : 76.
عدالة الصحابة _ 395 _
في يزيد بن معاوية ، حتّى ذكر في الخلاصـة وغيرها : أنّه لا ينبغي اللعن عليه ولا على الحجّاج ، لأنّ النـبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم نهى عن لعن المصلّين ومَن كان من أهل القبلة ، وما نقل عن لعن النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم لبعض مـن أهل القبلة فلِما أنّـه يعلم من أحوال الناس ما لا يعلمه غيره.
وبعضـهم أطلق اللعـن عليه لِما أنّـه كفر حـين أمر بقتل الحسين رضي الله عنه ، واتّفقوا على جواز اللعن على مَن قتله ، وأمر به ، وأجازه ، ورضي به.
والحقّ أنّ رضا يزيد بقتل الحسين رضي الله عنه ، واستبشاره بذلك ، وإهانته أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ، ممّا تواتر معناه ، وإن كان تفاصيله آحاداً ، فنحن لا نتوقّف في شأنه بل في إيمانه ، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه ) (1).
ولا يخفى أنّ المناط والضابطة التي ذكرها التفتازاني تنطبق على كثير ممّن عادى أهل بيت النبوّة.
وقال الغزّالي : ( الصفات المقتضية للّعن ثلاثة : الكفر والبدعة والفسق ) (2).
وقد ألّف أبو الفرج ابن الجوزي كتاباً في لعن يزيد سمّاه : الردّ على المتعصّب العنيد المانع من ذمّ يزيد ، ونسب فيه اللعن إلى العلماء الورعين (3).
---------------------------
(1) شرح العقائد النسفية ـ بتحقيق محمّـد عدنان درويش ـ : 247 ـ 248.
(2) إحياء علوم الدين 3 / 106.
(3) الردّ على المتعصّب العنيد : 13.
عدالة الصحابة _ 396 _
كما حكى القاضي أبو يعلى الفرّاء في كتاب المعتمد عن أحمد بن حنبل ـ وكذا الشبراوي (1) في الإتحاف ـ أنّه جوّز لعن يزيد (2) ، واستدلّ بقوله تعالى : ( فهل عسيْتُم إن تولّيْتُم ) (3).
وحكى الدمـيري (4) ذلك عن أبي حنيفة ومالك وأحمد.
ومثله ابن كثير (5) ، والطبري (6) ، والآلوسي (7).
وحكي كذلك عن الحنفية (8).
وقد وقع أهل السُـنّة في حيص بيص من لعن النبيّ جماعة بأسمائهم ، فأخذوا في توجيه ذلك بما يضحك الثكلى (9) مع أنّهم رووا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه كان يلعنهم في صلاته ويقنت عليهم (10).
وروى الحاكم عن عائشة أنّه قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( ستّة لعنتهم ، لعنهم الله وكلّ نبيّ مجاب : الزائد في كتاب الله ، والمكذّب بقدر الله تعالى ، والمتسلّط بالجبروت ، فيُعزّ بذلك مَن أذلّ الله ويُذلّ مَن أعزّ الله ، والمستحلّ لحرم الله ، والمستحلّ من عترتي ما حرّم الله ، والتارك
---------------------------
(1) الإتحاف بحبّ الأشراف : 64.
(2) الردّ على المتعصّب العنيد : 16 ـ 17.
(3) سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) 47 : 22.
(4) حياة الحيوان 2 / 175.
(5) البداية والنهاية 8 / 154 و 163 و 179.
(6) تاريخ الطبري 4 / 537.
(7) روح المعاني 26 / 73.
(8) الدرّ المنتقى 1 / 692 ، فيض القدير 1 / 205 ، ولاحظ الكثير من المصادر الأُخرى في نشرتنا هذه ( تراثنا ) العدد 50 ـ 51 ، لسنة 1418 هـ ، ص 191 ـ 253.
(9) لاحظ : الانتصار ـ للعاملي ـ 3 / 110 ـ 112.
(10) صحيح البخاري 5 / 35 باب : ليس لك من الأمر شيء.
عدالة الصحابة _ 397 _
لسُـنّتي ) (1).
وقال المحقّق الكركي في نفحات اللاهوت : ( لا ريب أنّ اللعن هو الطرد والإبعاد من الرحمة ، وإنزال العقوبة بالمكلّف ، وكلّ فعل أو قول اقتضى نزول العقوبة بالمكلّف من فسق أو كفر فهو مقتضي لجواز اللعن ) (2).
نعم هذا حكم اللعن للظالمين والمعتدين في نفسه أو في الوسط الداخلي ، وأمّا أُسلوب دعوة الآخرين وإرشادهم فلا ريب أن يُتحرّى فيه ما لا يثير عصبية الطرف الآخر ، كما ينبغي الالتفات إلى فلسفة اللعن في نفسه أو في الوسط الداخلي ، إذ أنّه مصداق لطبيعة التولّي والتبرّي ، التي مرّ أنّها فريضة قرآنية اعتقادية ، كما أنّه مصداق لطبيعة إنكار المنكر ـ ولو بالقلب واللسان ـ وكراهة الباطل ، وبالتالي فإنّه أُسلوب تربوي للنفوس يقيمها على الحقّ ويبعدها عن استحسان الباطل ، فإنّه من أكبر الأدواء في المجتمعات استنكار الحقّ واستحسان الباطل والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
وقال (عليه السلام) في خطبة له : ( وإنّي لعالِم بما يُصلحكم ويُقيم أودكم ولكنّي لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي ) (3) ...
وهذا أصل بالغ الأهمّية لطريقة إصلاح الآخرين : أن لا تكون على حساب فساد المصلح نفسه ، فقد يداري المصلح الطرف الآخر لدرجة يضيّع فيها على نفسه وطائفته موقف الثبات على الحقّ ، ويؤدّي إلى ذوبانه
---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين ـ للحاكم ـ 1 / 91 ح 102.
(2) نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت : 44 ـ 45.
(3) نهج البلاغة : خطبة 69.
عدالة الصحابة _ 398 _
في الباطل والانحراف باسم المداراة للإصلاح ، وبادّعاء أنّ الإصلاح قد يستلزم تخلّي الطائفة المحقّة عن بعض مبادئها وضرورياتها لتربية الطائفة نفسها.
إنّ لمعرفة الأهمّية البالغة للأمر بالمعروف والحقّ والنهي عن المنكر والباطل دور كبير في ثبات هوية المجتمع الديني ، ونظامه الاجتماعي ، وحصانته أمام الغزو الثقافي والعقائدي الأجنبي الدخيل ، الموجب للتحلّل الخلقي ولعدم التزام أفراد المجتمع تجاه مقدّسات الملّة والأُمّة والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم ...
وهذه الوظيفة التي تؤدّيها فريضة التولّي والتبرّي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ من إيجاد الغيرة الدينية وحسّ المسؤولية الاجتماعية الدينية ـ تتأدّى بآليات عديدة ، عمدتها الشعائر الدينية ، ومن هنا يُتفطّن لأهمّية الشعائر وعدم التفريط بها ، ولا سيّما الشعائر الإيمانية المذهبية ، فإنّ التفريط بها يوجب التفريط بكيان المذهب وذوبانه أمام هوية المذاهب الإسلامية الأُخرى ، القائمة على فـقه واعتقادات السلاطين ، المصنوعة من سياسات السلطات الحاكمة ، كالجبرية ، والقدرية ، والمجسّمة ، واجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالظنّ وإلقاء الشيطان في أُمنيّته ، وأنّ يد الله ـ والعياذ بالله ـ مقطوعة عن الأرض ، ومشروعية ولاية الحاكم المتغلّب بالقوّة ، وإطلاق الاجتهاد بالرأي ، والتأوّل ، والقياس ، والاستحسان ، وغيرها من الأُصول ، ويؤكّد علماء الاجتماع كذلك على أهمّية الشعائر ـ الطقوس ـ الدينية وفلسفتها.
عدالة الصحابة _ 399 _
ونظير الخلط السابق بين العناوين ، الخلط في الموازنة بين إقامة الشعائر الإيمانية وبين عنوان التقية ، مع أنّ موضوع التقية ( الخوفية ) حيث لا سلطة قائمة للمؤمنين ، وكونهم أقلّية قليلة ونحو ذلك ، أو الخلط بين التقية ( المداراتية ) وبين إقامة المعرفة الحقّة في نفوس أبناء الطائفة ، فإنّ التقية إنّما شُرّعت لحفظ الحقّ وأهله لا لطمسهما في المجتمع.
وإنّ التساؤل الجادّ المطروح في مشروع سياسة الوحدة هو عن الاهتمام ببقيّة طوائف ومذاهب الشيعة غير الإمامية ـ كالإسماعيلية والزيدية ومذهب العلويّين ـ نظير الاهتمام بالطوائف السُـنّية ، مع أنّ الملاحظ قلّة العناية بهم ، بل اللازم أولوية الاهتمام بهم لعدّة أسباب :
الأوّل : إنّ تحالفهم السياسي مع الطائفة مضمون ، نظراً لقرب أُصولهم الاعتقادية لنا.
الثاني : قوّة وأقربيّة احتمال هدايتهم بالمقارنة مع الطوائف السُـنّية.
الثالث : كبر حجمهم العددي والخطورة الاستراتيجية لأماكن تواجدهم.
فالعلويّون ـ مثلا ـ يصل تعدادهم في جنوب تركيا إلى 13 مليون نسمة حسب الإحصائيات الرسمية ، ولكن بعض التقارير المحلية تصل بعددهم إلى 22 مليون نسمة ، فضلا عن تواجدهم في سوريا ولبنان وشمال العراق.
ومثلهم الإسماعيلية ، فهم منتشرون في لبنان وسوريا والعراق
عدالة الصحابة _ 400 _
وأفغانستان وپاكستان والهند واليمن ، وفي جنوب السعودية يشكّلون الأكثرية في المحافظات الجنوبية ، والغريب أنّه في مؤتمرات الوحدة لم توجّه إلى الآن ـ حسب ما قيل ـ أي دعوة لعلماء الإسماعيلية في سوريا أو في المناطق الأُخرى ، والظاهر أنّ الحال كذلك بالنسبة إلى العلويّـين ، إذ لم توجّه لهم دعوة.
وأمّا الزيدية فهم الأكثرية في اليمن.
وكذلك الحال بالنسبة إلى الأشراف السادة من نسل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإنّ انتشارهم في الأصقاع كوثر كاثر ، ولهم نقابات في أكثر البلدان ، وهم على محبّة وولاء قلبي لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أشـدّ من غيرهم ...
ففي بلاد المغرب العربي والجزائر وتونس ما يقرب من 5 ملايين حسني ، فضلا عن مصر وليبيا ، وكذلك في المدينة المنوّرة ومكّة المكرّمة وأندونسيا.
والحاصل قلّما يخلو بلد من البلدان الإسلامية من هذا النسل الطيّب ، وهم أوْلى بإقامة الجسور معهم من أتباع بني أُمية ومروان ، بل إنّ صوفية السُـنّة وفرقهم أوْلى بإقامة العلاقة معهم من بقية طوائف السُـنّة ، إذ أنّ غالبيّتهم يعتقدون باطناً بإمامة الاثني عشر (عليهم السلام) ، ولذلك تتخوّف الطوائف السُـنّية الظاهرية الرسمية منهم.
والحاصل : إنّ سياسة الوحدة لم تبن على بصيرة منهجية ، آخذة في عين الاعتبار درجات وأقسام الطوائف الإسلامية الموجودة ، وإرساء منهج يستند على أولويات مدروسـة.
وكم فرق بين مَن يُبطن المحبّة لك وبين مَن يُبطن العداوة والبغضاء
عدالة الصحابة _ 401 _
قال تعالى : ( يا أيُّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يأْلونَكم خبالا ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاءُ من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبرُ قد بيّنّا لكم الآياتِ إنْ كنتم تعقلون * ها أنتم أُولاءِ تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه ... ) (1) ...
وقال تعالى : ( كيف وإن يظهروا عليكم لا يَرْقُبوا فيكم إلاًّ ولا ذمّةً يُرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم ... ) (2).
ولا يخفى أنّ الآيات المزبورة ليست في صدد تخشين العلاقة الخُلقية مع الآخرين المتّصفين بذلك كي يُتوهّم معارضتها بنظير قوله تعالى : ( وقولوا للناس حسناً ) (3) ، وقوله تعالى : ( ادفَعْ بالتي هيَ أحسنُ السيئةَ ) (4) ، بل هي في صدد بيان سياسة الانفتاح وبناء العلاقات الأساسية المعتمدة لبناء خطوات المستقبل من التحالفات في المجالات المختلفة.
إنّ الحديث المتواتر بين الفريقين عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( إنّ أُمّتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة منها ناجية واثنتان وسبعون في النار ) (5) يلزم الباحث المسلم الطالب للنجاة الأُخروية الفحص عن خصوص تلك الفرقة الناجية ، والتمسّك بها دون بقية فرق المسلمين ، لأنّ
---------------------------
(1) سورة آل عمران 3 : 118 ـ 119.
(2) سورة التوبة 9 : 8.
(3) سورة البقرة 2 : 83.
(4) سورة المؤمنون 23 : 96.
(5) بحار الأنوار 28 / 2 ـ 36.
عدالة الصحابة _ 402 _
مؤدّى الحديث النبوي أنّ الاختلاف الواقع ليس في دائرة الظنون والاجتهاد المشروع ، بل هو في دائرة الأُصول والأركان من الأُمور القطعية واليقينية ، أي ممّا قام الدليل القطعي واليقيني عليها ، وإن لم تكن ضرورية في زمن أو أزمان معيّنة نتيجة التشويش أو التعتيم الذي تقوم به الفرق الأُخرى.
والحـديث ـ مضافاً إلى كونه ملحـمة نـبوية ـ يحدّد معالم الوحدة التي يجب أن تقيمها الأُمّة الإسلامية بأن تكون على منهاج الحقّ والهدى الذي تسير عليه الفرقة الناجية ، وإنّ الأُمّة وإن اشتركت في الإقرار بالشهادتين والانتماء إلى الملّة الواحدة إلاّ أنّ ذلك لا يعدو الأحكام بحسب ظاهر الإسلام في النشأة الدنيوية ، إلاّ أنّها مفترقة بحسب واقع الإسلام والإيمان الذي به النجاة الأُخروية ، فهناك ديانة بحسب إقرار اللسان تترتّب عليها أحكام المواطنة في النظام الاجتماعي السياسي ، وهناك ديانة بحسب القلب والأعمال تترتّب عليها أحكام الآخرة من النجاة من النار وإعطاء الثواب.
وهذه الأُمور المستفادة من الحديث الشريف المتواتر إنّما هي بلحاظ الإنسان البالغ العاقل المكلّف ، الذي قد اجتمعت فيه شرائط التكليف ، أمّا الصبي والمجنون والجاهل القاصر أو المعتوه أو الأبله وحديث العهد بالإسلام ونحوهم ممّن لم تقم عليه الحجّة وتتمّ شرائط التكليف لديه ، فهم معذورون ، وعاقبة المعذور ـ كما سيأتي ـ موقوفة على المشيئة الإلهية الأُخروية ، التي فُسّرت في الروايات بإقامة امتحان إلهي له يوم القيامة إن أطاع فيه نجا وإن عصى هلك.
وقـد أُطلق على أفراد المعـذور في الكتاب والسُـنّة عدّة تسميات ،
عدالة الصحابة _ 403 _
كـ : ( المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) (1) ، و ( مُرْجَوْن لأمر الله ) (2) ، و ( أصحاب الأعراف ) (3) ، والّذين ( خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً ) (4) ، و ( المؤلّفةِ قلوبُهُم ) (5) ، وأُطلق عليهم أيضاً : ( الضلاّل ) ، بمعنى : الضالّ ( القاصر ) ، إذ هذا أحد معانيه ، وإلاّ فهو يطلق على ( المقصّر ) المخلّد في النار أيضاً ...
لذلك لا مفرّ لهذا الإنسان ـ المكلّف المختار ـ ولا مخلص ولا نجاة له إلاّ بالفحص عن الفرقة الناجية من فرق المسلمين ، وليس له أن يتعامى عن عمد ويسلك طريق الضلال والغواية ويرجو مع ذلك النجاة ، كما أنّ البحث الجادّ بين فرق المسلمين في إطار الوحدة لا بُدّ أن يُتحرّى فيه ـ بمقتضى الحديث الشريف والتوصية النبوية ـ عن الحقّ الذي تسلكه الفرقة الناجية لكي تتّبعها بقيّة الفرق ، فإنّ منهاج الهدى لا يرسم بضلال القاصر المستضعف.
ولكي تتمّ الفائدة من هذا الحديث المتواتر ـ حديث الفرقة الناجية ـ الذي أقرّت بمضمونه جلّ فرق المسلمين ، نذكر بعض النقاط التالية :
---------------------------
(1) سورة النساء 4 : 98.
(2) سورة التوبة 9 : 106.
(3) سورة الأعراف 7 : 48.
(4) سورة التوبة 9 : 102.
(5) سورة التوبة 9 : 60.
عدالة الصحابة _ 404 _
الأُولى :
إنّ الكلام في النجاة في الحديث الشريف هو بحسب الاستحقاق والامتثال ، لا بحسب الشفاعة والشفقة الإلهية والرحمة الواسعة ، أي بحسب ما يلزمه حكم العقل باتّباع الأدلّة والبراهين الشرعية والعقلية الأولية ، فإنّ العقل يوجب التجنّب عن التعرّض للسخط الإلهي واحتمال العقوبة الأُخروية ، وإن لم يكن بين استحقاق العقوبة ووقوعها تلازم ، لاحتمال الشفاعة ونحوها ، فإنّ التعرّض لمثل العقوبة الأُخروية التي أشفقت منها السماوات والأرض يعدّ من الإلقاء في الهلكة ، هذا فضلا عن الأصناف الأُخرى لحكم العقل من وجوب شكر المنعم وقبح التمرّد والطغيان على المولى ، وغيرها من أنماط حكم العقل والفطرة.
الثانية :
إنّ المقصود من النجاة في الحديث الشريف هو النجاة من الدخول في النار ومن ذوق حريق العذاب ، لا في النجاة من الخلود فيها ومن دوام العذاب ، فإنّ آراء المتكلّمين تكاد تتّفق أنّ الخلود للجاحدين وأهل العناد ، سواء كان الجحود في توحيد الذات أو الصفات ، أو في التشريع والرسالة ، أو في الولاية والإمامة ، أو في الغاية والمعاد ، ونحوها من أُصول الاعتقاد ...
وبعبارة أُخرى : إنّ مفاد الحديث في دخول الجنّة عند الحساب والميزان ، لا في دخول الجنّة بعد أحقاب من العذاب في النار.
الثالثة :
إنّ معذورية أفراد المعذور ـ كما يأتي ـ لا يعني تنجّز نجاته بل هي مرهونة بالمشيئة الإلهية ، والتي فُسّرت في عدّة من الأخبار بالامتحان ، كما
عدالة الصحابة _ 405 _
لا يعني أنّ مسار هؤلاء هو طريق هدى بل مفروض العذرية تخبّط المعذور في الضلال والغواية ، فلا تلازم بين العذرية والأمان ولا بينها وبين ضمان النجاة ، ولا بينها وبين اتّخاذ خطأ وضلال المعذور منهاجاً يتبجّح به ، وسيأتي أنّ في الروايات ما يدلّ على أنّه يبيّن الحقّ لأفراد المعذور في امتحان يوم القيامة.
الرابعة :
إنّ هناك جملة من الآيات والأحاديث النبوية المستفيضة والمتواترة الأُخرى الدالّة على مفاد حديث الفرقة الناجية نفسه ، لكن بألفاظ مختلفة ودلالات متعدّدة التزامية ومطابقية ...
منها : ( مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ) (1) ، وفي بعض الطرق : ( وليس في عنقه بيعه لإمام زمانه ) (2) ، ونحو ذلك.
ومنها : ( مثل أهل بيتي كسـفينة نوح ، مَن ركبها نجا ومَن تركها هلك ) (3).
ومنها : ذيل حديث الثقلين ، ومفهومه : ( ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا أبداً ) .
---------------------------
(1) دعائم الإسلام 1 / 27 ، قرب الإسناد : 351 ضمن ح 1260 ، المحاسن 1 / 251 ـ 252 ح 474 و ح 476.
(2) صحيح مسلم 3 / 1478 ح 1851 ، المعجم الكبير 19 / 334 ح 769 ، سُنن البيهقي 8 / 156.
(3) المناقب ـ للكوفي ـ 1 / 296 ح 220 و 2 / 146 ح 624 ، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)2 / 27 ح 10 ، المسترشد ـ لابن جرير الطبري ـ : 260 ذيل ح 73 و 578 ح 250 ، مسند البزّار 9 / 343 ح 3900.
عدالة الصحابة _ 406 _
وغيرها من الأحاديث النبوية الواردة في عليّ (عليه السلام) وأهل بيته.
الخامسة :
قد وردت جملة من الروايات المستفيضة في امتحان أقسام المعذور يوم القيامة ، منها : صحيحة هشام ، عن أبي عبـد الله (عليه السلام) : سُئل عمّن مات في الفترة ـ أي في زمان انقطاع الرسل وغياب الحجّة ـ وعمّن لم يدرك الحنث ـ أي البلوغ ـ والمعتوه ، فقال : ( يحتجّ الله عليهم يرفع لهم ناراً فيقول لهم : ادخلوها ، فمَن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ، ومن أبى قال : ها أنتم قد أمرتكم فعصيتموني ) (1).
وفي صحـيحة أُخرى قال (عليه السلام) : ( ثلاثة يحتجّ عليهم : الأبكم ، والطفل ، ومن مات في الفترة ، فيرفع لهم نار فيقال لهم : ادخلوها ، فمَن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ، ومَن أبى قال تبارك وتعالى : هذا قد أمرتكم فعصيتموني ) (2).
وفي بعض الروايات : ( إنّ أولاد المشركين خدم أهل الجنّة ) (3).
ومنها : صحـيح زرارة ، قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) : هل سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الأطفال ؟ فقال : ( قد سئل فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ) ...
ثمّ قال : ( يا زرارة! هل تدري ما قوله الله أعلم بما كانوا عاملين ؟! )
قلت : لا ، قال : ( لله عزّ وجلّ فيهم المشيئة ، إنّه إذا كان يوم القيامة أُتي بالأطفال ، والشيخ الكبير الذي قد أدرك السن ( النبيّ ) ولم يعقل من الكبر والخرف ، والذي مات في الفترة بين النبيّين ، والمجنون ، والأبله الذي لا يعقل ، فكلّ واحد يحتجّ على الله عزّ وجلّ ، فيبعث الله تعالى إليهم ملكاً من الملائكة ويؤجّج ناراً فيقول : إنّ ربّكم يأمركم أن تثبوا فيها ، فمَن وثب فيها كانت عليه برداً وسلاماً ، ومَن عصاه سبق إلى النار ) (1).
وهناك جملة عديدة من الروايات ، فلاحظها في محالّها (2) ، كما أنّ هناك جملة أُخرى من الروايات دالّة على دخول أطفال المشركين مع آبائهم في النار ، لكنّها محمولة على عصيانهم في الامتحان.
وفي رواية لزرارة ، قال : قال أبو جعفر (عليه السلام) ـ وأنا أُكلّمه في المستضعفين ـ : ( أين ( أصحاب الأعراف ) ؟! أين المرجون لأمر الله ؟! أين الّذين ( خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً ) ؟! أين ( المؤلّفة قلوبهم ) ؟! أين أهل تبيان الله ؟! أين ( المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) ؟! ( فأُولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوّاً غفوراً ) (3) ) (4) ...
وتعبـيره (عليه السلام) عـن أفراد المعـذورين بـ : ( أهل تبيان الله ) لعلّ المراد به أنّه يبيّن تعالى لهم الهدى من الضلال في الامتحان المقام لهم عند الحساب.
---------------------------
(1) الكافي 3 / 248 ح 1 ، معاني الأخبار : 407 ح 86 ، بحار الأنوار 5 / 290 ح 3.
(2) الكافي 3 / 248 ـ 249 ح 1 ـ ح 7 ، بحار الأنوار 5 / 288 ـ 297 ح 1 ـ ح 22.
(3) سورة النساء 4 : 99.
(4) تفسير العيّاشي 1 / 269 ح 246 ، بحار الأنوار 72 / 164 ح 23.
عدالة الصحابة _ 408 _
السادسة :
هناك جملة أُخرى من الروايات يظهر منها دخول أفراد المعذور إلى الجنّة ، ولكنّها محمولة ومقيّدة بامتحانهم وطاعتهم فيه ، ومن ثمّ نجاتهم ، كما تقدّم حمل جملة من الروايات الواردة في دخول أطفال المشركين النار على عصيانهم في الامتحان ، بمقتضى العديد من الروايات المستفيضـة المفصّلة المقيّدة لدخول الجنّة أو النار بالامتحان عند الحساب ...
منها : صحيح زرارة ، قال : دخلت أنا وحمران ـ أو : أنا وبكير ـ على أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : قلت له : إنّا نمدّ المطمار ؟ قال : ( وما المطمار ؟! ) قلت : التُتر ، فمَن وافقنا من علوي أو غيره تولّيناه ، ومَن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه ...
فقال : ( يا زرارة! قول الله أصدق من قولك ، فأين الّذين قال الله عزّ وجلّ : ( إلاّ المستضعفينَ من الرجال والنساء ... ) ؟! أين المرجون لأمر الله ؟! أين الّذين ( خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً ) ؟! أين ( أصحاب الأعراف ) ؟! أين ( المؤلّفة قلوبهم ) ... ).
وزاد فيه جميل ، عن زرارة : فلمّا كثر بيني وبينه الكلام قال : ( يا زرارة ! حقّاً على الله أن ( لا ) يدخل الضلاّل الجنّة ) (1) ، بناءً على نسخة بدون ( لا ) النافية ...
وفي رواية العيّاشي : ( يا زرارة ! حقّاً على الله أن يدخلك الجنّة ) (2).
---------------------------
(1) الكافي 2 / 282 ح 3 ، كتاب الإيمان والكفر : باب أصناف الناس.
(2) تفسير العيّاشي 2 / 93 ح 74 ، بحار الأنوار 72 : 164 ـ 165 ح 26.
عدالة الصحابة _ 409 _
وصدر الرواية قد روي بطرق متعدّدة ، وموردها في الأصل أنّه (عليه السلام)سأل زرارة : ( متأهّل أنت ؟! ) ، فقال : لا ، ثمّ ذكر زرارة أنّه لا يستحلّ نكاح هؤلاء فذكر (عليه السلام) أنّ المستضعفين لا زالوا على الولاء ، لا ولاء الإيمان بل ولاء ظاهر الإسلام من المناكحة وحلّية ذبيحتهم و ... ففي رواية لحمران عنه (عليه السلام) : ( هم من أهل الولاية ... أما إنّها ليست بولاية في الدين ولكنّها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة ، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفّار ، وهم المرجون لأمر الله عزّ وجلّ ) (1).
والحاصل أنّ هذه الرواية ومثيلاتها محمولة على النجاة ـ ومقيّدة لها ـ بالطاعة عند الامتحان في الحساب مع تبيان الحقّ لهم واختيارهم له ، لما مرّ من روايات مستفيضة دالّة على ذلك مضافاً إلى كون مثل هذه الروايات متعرّضة إلى أحكام الحياة الاجتماعية مع هؤلاء ...
ومثل هذا التقييد في صحيح ضريس الكناسي : عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : قلت له : جعلت فداك ، ما حال الموحّـديـن المقـرّين بنبوّة محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) من المسلمين المذنبين ، الّذين يموتون وليس لهم إمام ولا يعرفون ولايتكم ؟
فقال : ( أمّا هؤلاء فإنّهم في حفرهم لا يخرجون منها ، فمَن كان له عمل صالح ولم يظهر منه عداوة فإنّه يخدّ له خدّاً إلى الجنّة التي خلقها الله بالمغرب ـ أي البرزخية لا الأُخروية ـ فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة حتّى يلقى الله فيحاسبه بحسناته وسيئاته ، فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار ، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله ) ...
قال (عليه السلام) : ( وكذلك يفعل بالمستضعفين ، والبله ، والأطفال ، وأولاد المسلمين الّذين لم يبلغوا الحلم ) ... الحديث (1).
وذيل الرواية صريح في كون حالهم موقوفاً على المشيئة الإلهية ، التي قد فسرت في روايات عديدة بالامتحان ، وحاشا لعدله تعالى أن يدخِل النار بغير موجب.
ومثلها رواية الأعمش ، عن الصادق (عليه السلام) : ( أصحاب الحدود فسّاق ، لا مؤمنون ولا كافرون ، ولا يخلدون في النار ويخرجون منها يوما ما ، والشفاعة لهم جائزة ، وللمستضعفين إذا ارتضى الله دينهم ) (2).
وذيل هذه الرواية دالّ على التمييز بين ( أصحاب الحدود ) وبين ( المستضعفين ) في كون ( المستضعفين ) لا تجوز لهم الشفاعة حتّى يرتضي الله تعالى دينهم ، أي حتّى يدينوا بالعقائد الحقّة فحينئذ يكونوا على حدّ فسّاق المؤمنين من صلاح العقيدة لكنّهم أساؤوا العمل ، فهي تدلّ على إقامة الامتحان للمستضعفين ، وأنّه بالدرجة الأُولى في تبيان العقائد والإيمان الحقّ ، كما مرّ في بعض الروايات أنّهم من : ( أهل تبيان الله ).
ومن جـملة هذا النمط من الروايات : رواية الصباح بن سيابة ، عن أبي عبـد الله (عليه السلام) ، قال : ( إنّ الرجل ليحبّكم وما يدري ما تقولون فيدخله الله الجنّة ، وإنّ الرجل ليبغضكم وما يدري ما تقولون فيدخله النار ) (3) ...
---------------------------
(1) الكافي 3 / 247 ضمن ح 1 ، تفسير القمّي 2 / 260 ، بحار الأنوار 6 / 286 ح 7 و 290 ضمن ح 14 و 72 / 158 ح 3.
(2) الخصال : 608 ضمن ح 9 ، عيون الأخبار 2 / 125 ضمن ح 1 ، بحار الأنوار 8 / 40 ح 22 و 72 / 159 ح 6.
(3) معاني الأخبار : 392 ح 40 ، بحار الأنوار 72 / 159 ح 7.
عدالة الصحابة _ 411 _
وهذه الرواية تبيّن مدى أهمّية تولّي أولياء الله ، والهلاك في ترك ولايتهم ، وإنّ التولّي والتبرّي منشأه من الأُصول الاعتقادية.
وفي بعض الروايات التقييد بمَن أحبّ الشيعة لحبّهم سيّدة نساء العالمين الزهراء فاطمة (عليها السلام) (1).
وفي بعض الروايات الأُخرى أنّ ذلك بعد شفاعة المؤمنين في مَن أحبّهم (2).
وعلى أي تقدير ; ( ولا يشفعونَ إلاّ لمَن ارتضى ) (3) ، كما في الآية الكريمة ، ورضاه بارتضاء دينه ، كما مرّ في رواية الأعمش ، وفُسّر بذلك في روايات الشفاعة ، فيدلّ على أنّ الامتحان الذي يقام للمستضعفين ونحوهم من أفراد الضلاّل القاصرين هو في الديانة واعتناق الإيمان الحقّ.
أمّا كون الشفاعة موردها مَن ارتضى دينه فيدلّ عليه قوله تعالى : ( إنّ الله لا يغفرُ أن يشْرَك به ويغفرُ ما دونَ ذلك لمَن يشاءُ ومَن يُشرِكْ بالله فقد افترى إثماً عظيماً ) (4) ...
وفي آية أُخرى : ( إنّ الله... ومَن يُشرك بالله فقد ضلّ ضلالا بعيداً ) (5) ، وهو شامل للكفر ، لأنّه ضرب من الشرك.
وقد أُطلق الكفر على جحود ولاية خليفة الله في أرضه ، كما في
---------------------------
(1) تفسير فرات الكوفي : 298 ح 403 ، بحار الأنوار 8 / 52 ضمن ح 59.
(2) تفسير القمّي 2 / 202 ، الخصال : 408 ح 6 ، ثواب الأعمال : 206 ح 1 ، بحار الأنوار 8 / 38 ح 16 و 39 / 19 و 41 / 26.
(3) سورة الأنبياء 21 : 28.
(4) سورة النساء 4 : 48.
(5) سورة النساء 4 : 116.
عدالة الصحابة _ 412 _
إبليس لعنه الله، فيعمّ ولاية عليّ (عليه السلام) وولده (عليهم السلام) ، كما وردت بذلك روايات عديدة في ذيل الآيتين في تفسيري البرهان و نور الثقلين ، فلاحظها.
وقوله تعالى : ( لا يملكونَ الشفاعةَ إلاّ مَن اتّخذَ عند الرحمن عهداً ) (1) ...
وقوله تعالى : ( يومئذ لا تنفعُ الشفاعةُ إلاّ مَن أذِنَ له الرحمن ورضيَ له قولا ) (2) ، أي : معتقده.
وكذا قوله تعالى : ( وإنّي لغفّار لمَن تاب وآمن وعمِل صالحاً ثمّ اهتدى ) (3) ، فالآية قيّدت المغفرة بالهداية إضافةً إلى الإيمان والعمل الصالح.
فالهداية هي للولاية ، كما عرّفت في آيات عديدة أنّ الهداية الصراطية للإيصال إلى المطلوب هي الولاية والإمامة ، كما في : ( إنّما أنت منذرٌ ولكلّ قوم هاد ) (4) ، و : ( جعلناهم أئمّةً يهْدون بأمْرنا وأوحينا إليهم فِعْلَ الخيرات ) (5) ، و : ( اهدنا الصراط المستقيم * صراط الّذين أنعمت عليهم ... ) ، و : ( أفمَن يهدي إلى الحقّ أحقُّ أن يُتّبَعَ أمَّن لا يَهِدّي إلاّ أن يُهْدى فما لكم كيف تحكمون ) (6).
وقد وردت روايات مستفيضة في ذيل الآية في بيان ذلك براهيناً ،
---------------------------
(1) سورة مريم 19 : 87.
(2) سورة طه 20 : 109.
(3) سورة طه 20 : 82.
(4) سورة الرعد 13 : 7.
(5) سورة الأنبياء 21 : 73.
(6) سورة يونس 10 : 35.
عدالة الصحابة _ 413 _
فلاحظ تفسير البرهان (1) و نور الثقلين (2) ، فمقتضى الآية كون الامتحان والتبيان لأهل الأعذار من الضلاّل مستعقب لهدايتهم بالطاعة.
ويدلّ عليه رواية الحسين بن خالد ، عن الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) ، قال : ( قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : مَن لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي ، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شـفاعتي ) ، ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( إنّما شـفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل ) ...
قال الحسـين بن خالد : فقلت للرضا (عليه السلام) : يا بن رسول الله! فما معنى قول الله عزّ وجلّ : ( ولا يشفعون إلاّ لمَن ارتضى ) (3) ؟ قال : ( لا يشفعون إلاّ لمَن ارتضى الله دينه ) (4).
وعمدة الباب ما في صحيحة ابن أبي عمير ، قال : سمعت موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول : ( لا يخلد الله في النار إلاّ أهل الكفر والجحود ، وأهل الضلال والشرك ، ومن اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر ) ، ـ ثمّ ذكر (عليه السلام) أنّ الشفاعة لأهل الكبائر من المؤمنين ـ ...
قال ابن أبي عمير : فقلت له : يا بن رسول الله ! فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول : ( ولا يشفعون إلاّ لمَن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) ، ومَن يركب الكبائر لا يكون مرتضىً ؟!
فقال : ، يا أبا أحمد! ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلاّ ساءه ذلك وندم
---------------------------
(1) تفسير البرهان 3 / 28 ـ 30 ح 4885 ـ ح 4894.
(2) تفسير نور الثقلين 2 / 302 ـ 304 ح 57 ـ ح 63.
(3) سورة الأنبياء 21 : 28.
(4) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1 / 136 ح 35 ، الأمالي ـ للشيخ الصدوق ـ : 56 ح 11 ، بحار الأنوار 8 / 19 ح 5 و 34 ح 4.
عدالة الصحابة _ 414 _
عليه ، وقد قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : كفى بالندم توبةً.
وقال : مَن سرّته حسنة وساءته سيّئة فهو مؤمن ، فمَن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ، ولم تجب له الشفاعة ، وكان ظالماً ، والله تعالى يقول : ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاعُ ) (1) ) .
فقلت له : يا بن رسول الله! وكيف لا يكون مؤمناً مَن لم يندم على ذنب يرتكبه ؟!
فقال : ( يا أبا أحـمد ! ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أنّه سيعاقب عليها إلاّ نـدم على ما ارتكب ، ومتى ندم كان تائباً مستحقّاً للشفاعـة ، ومتى لم يندم عليها كان مصـرّاً ، والمصـرّ لا يُغفر له ، لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم ، وقد قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ...
وأمّا قول الله : ( ولا يشفعون إلاّ لمَن ارتضى ) ، فإنّهم لا يشفعون إلاّ لمَن ارتضى الله دينه ، والدين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيّئات ، ومَن ارتضى الله دينه ندم على ما يرتكبه من الذنوب ، لمعرفته بعاقبته في القيامة ) (2) ، فإنّه استدلال عقلي لتقييد الشفاعة بمَن ارتضى الله دينه وهو المؤمن ، وأنّ الضالّ القاصر لا تناله الشفاعة إلاّ بعد التبيان والامتحان وتعرّفه على حقائق الإيمان فينخرط في زمرة المؤمنين.
ونظير الروايات المتقدّمة : ما رواه الصدوق بسنده عن أبي عبـد الله ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ (عليهم السلام) ، قال : ( إنّ للجنّة ثمانية أبواب ... وباب يدخل منه سائر المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلاّ الله ولم يكن في
قلبه مقدار ذرّة من بغضنا أهل البيت ) (1) ...
فإنّ غاية دلالتها : على عدم خلودهم في النار ، ولا تنافي ما دلّ على امتحانهم وتوقّف دخولهم الجنّة على إطاعتهم بالإيمان ، كما لا تنافي ما دلّ على دخولهم النار حقبة لتطهيرهم ثمّ دخولهم الجنّة ، فهناك فرق بين الخلود في النار وبين الدخول فيها ولو لحقبة منقطعة الأمد ، وكذلك بين الدخول في الجنّة ابتداءً وبين الدخول فيها لاحقاً ، فحساب الأكثرية والأقلية من الناجـين يختلف بحسب المقامين ، وقـد ورد عنهم (عليهم السلام) : ( الناجون من النار قليل ، لغلبة الهوى والضلال ) (2) ، والرواية ناظرة للنجاة من النار لا النجاة من الخلود فيها ، وقد تقدّم في حديث الكاظم (عليه السلام) أنّ طوائف المخلّدين أربع وما عداهم لا يخلد.
السابعة :
قد دلّت الآيات والروايات المتواترة على أنّ قبول الأعمال مشروط ، وصحّتها كذلك مشروطة بعدّة شرائط ، لا يثاب العامل على عمله إلاّ بها ، وإلاّ يكون مردوداً بالنسبة إلى الثواب الأُخروي ، لا سيّما مثل الدخول في الجنّة ، بل الأدلّة دالّة على أنّ صحّة الاعتقادات مشروطة بالولاية ، نظير قوله تعالى المتقدّم : ( وإنّي لغفّار لمَن تاب وآمن وعمل صالحاً ثمّ اهتدى ) ، فقد قيّد الإيمان والعمل الصالح بالهداية ، فإنّ المغفرة ـ وهي النجاة من العقوبة ـ إذا كانت مقيّدة فكيف بالمثوبة ؟!
---------------------------
(1) الخصال : 407 ح 6 ، بحار الأنوار 8 / 39 ح 19.
(2) غـرر الحكم ـ للآمدي ـ 1 / 85 ح 1749 ، مستدرك الوسائل 12 / 113 ضمن ح 13.
عدالة الصحابة _ 416 _
وقوله تعالى : ( إنّما يتقبّلُ اللهُ من المتّقين ) (1) ، والغاية في تعبير الآية : أنّه قد قيّد القبول ليس بوصف العمل بالتقوى بل بوصف العامل بذلك ، والصفة لا تصدق إلاّ مع تحقّقها في مجمل الأعمال وأركانها ، وهي العقائد الحقّة.
وكذا قوله تعالى : ( أبى واستكبر وكان من الكافرين ) (2) ، فجعل تعالى أعمال إبليس كلّها هباءً منثوراً باستكباره على وليّ الله وعدم إطاعته لخليفة الله بتولّيه ، بل الملاحظ في واقعة إبليس ـ التي يستعرضها القرآن الكريم في سبع سور ـ أنّ كفره لم يكن شركاً بالذات الإلهية ولا بالصفات ولا بالمعاد ولا بالنـبوّة ، بل هو جحود لإمامة وخلافة آدم (عليه السلام) ، فلم يقبل الله تعالى اعتقاد إبليس ، كما لم يقبل أعماله ، وأطلق عليه الكفر بدل التوحيد ...
والسرّ في ذلك أنّ ذروة التوحيد وسنامه ومفتاحه وبابه هو التوحيد في الولاية ، فإنّ اليهود قائلون بالتوحيد في الذات والمعاد وهو توحيد الغاية ، وبالتوحيد في التشريع وهو النبوّة ، إلاّ أنّهم كافرون بالتوحيد في الولاية ، إذ قالوا : ( يد الله مغلولةٌ غُلّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ) (3) ، فإنّهم حجبوا الذات الإلهية عن التصرّف في النظام البشري ، وقالوا بأنّ البشر مختارين في نظامهم الاجتماعي السياسي ، وأنّ الحاكمية السياسية ليست لله تعالى ...
وإنّك وإن أجهدت وأتعبت نفسك فلن تجد ديناً ومذهباً يعتقد
---------------------------
(1) سورة المائدة 5 : 27.
(2) سورة البقرة 2 : 34.
(3) سورة المائدة 5 : 64.
عدالة الصحابة _ 417 _
بحاكمية الله تعالى السياسية والتنفيذية كحاكميته تعالى في التشريع والقانون ، كما كان حال حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته السياسية ، التي يستعرضها القرآن الكريم ، فإنّ الحاكم السياسي الأوّل في حكومته (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو الباري تعالى في المهمّات والمنعطفات في التدبير السياسي والعسكري والقضائي ، وقد اختفت حاكمية الله تعالى هذه في عهد الخلفاء الثلاثة ثمّ عاودت الظهور في عهد الأمير (عليه السلام) ، فإنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) محالّ مشيئة الله تعالى وإراداته ، فتصرّفاتهم منوطة بإرادته المتنزّلة عليهم.
فهذه الحاكمية التوحيدية لا تجد لها أثراً في مذاهب المسلمين ، فضلا عن الأديان الأُخرى المحرّفة ، سوى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، فمن ثمّ كانت الإمامة والولاية هي مظهر ومجلى التوحيد في الولاية ، وكان الاعتقاد بها هو كمال التوحيد وذروته وسنامه ، إذ أنّ تجميد التوحيد في الذات أو في الصفات أو في التشريع أو في المعاد ـ إنّ إليه الرجعى والمنتهى ـ تعطيل له ، ولا تظهر ثمرته إلاّ بظهوره في الولاية والحاكمية في مسـيرة البشـر.
ويمكن ملاحظة اشتراط الولاية في صحّة الاعتقاد ، فضلا عن الأعمال ، في جلّ الآيات الواردة في ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ، وكذلك في كثير من الروايات ...
أمّا الآيات :
فنظير قوله تعالى : ( يا أيّها الرسولُ بلّغْ ما أُنْزِلَ إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالتَهُ واللهُ يعصِمك من الناس إنّ الله لا يهدي
عدالة الصحابة _ 418 _
القومَ الكافرين ) (1) ...
فإنّه تعالى قد نفى تبليغ الرسالة ـ من الأساس ـ مع عدم إبلاغ ولاية عليّ (عليه السلام) للناس ، وهو يقتضي عدم الاعتداد بتوحيد الناس للذات الإلهية وبإقرارهم بالمعاد والنبوّة من دون ولاية عليّ (عليه السلام) ، أي أنّ التوحيد في جميع أبوابه وأركانه وحدة واحدة : توحيد الذات ، وتوحيد الغاية والخلوص ، وتوحيد التشريع ، وتوحيد الولاية.
ولازم الكفر والإشراك في مقام من مقامات التوحيد هو الكفر والإشراك الخفي المبطّن في بقية المقامات ، وذيل الآية صريح في ترتّب الكفر على ذلك في مقابل الإيمان ، لا ما يقابل ظاهر الإسلام ، إذ الظاهر مترتّب على الإقرار بالشهادتين لساناً.
ونظير قوله تعالى : ( اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضِيتُ لكم الإسلامَ ديناً ) (2) ...
فإنّ الإكمال يستعمل في تحوّل الشيء في الأطوار النوعية من نوع إلى نـوع ، والإتمام يسـتعمل في انضمام الأجزاء الخارجية بعضها إلى بعض ، ففي التعبير عناية فائقة في كون الدين لم يكتمل طوره النوعي التام إلاّ بالولاية ، وأمّا النعمة الدنيوية فلا تتمّ أجزاءها إلاّ بها أيضاً ، وإن كان للأجزاء قوام مستقلّ ، كمَن امتنع عن المحرّمات والفواحش فإنّه يتنعّم بالوقاية من مفاسدها الدنيوية ، وهذا ممّا يبيّن الاختلاف الماهوي بين الإسلام في ظاهر اللسان وبين الإيمان في مكنون القلب ومقام العمل وهو الإسلام بوجوده الحقيقي.
---------------------------
(1) سورة المائدة 5 : 67.
(2) سورة المائدة 5 : 3.
عدالة الصحابة _ 419 _
ثمّ إنّ في الآية تقييد رضا الربّ بكون الإسلام ديناً بالولاية ، فالإسلام من توحيد الذات والتشريع (النبوّة) والمعاد وتوحيد الغاية معلّق رضا الربّ به بشرطية الولاية ، فضلا عن العمل بفرائض الفروع.
ونظير ذلك : ما في سورة الحمد (الفاتحة) ...
فالمصلّي عندما يقرّ لربّه في النصف الأوّل من السورة بالتوحيد في الذات ( الحمد لله ربّ العالمين ) ، والصفات ( الرحمن الرحيم ) ، وفي الغاية والمعاد ( مالك يوم الدين ) ، وفي التشريع ( إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ) في جميع الأُمور في الحياة الفردية والاجتماعية ، فإنّه يعود في النصف الثاني من السورة ليطلب الهداية إلى الصراط المستقيم ( اهدنا الصراط المستقيم ).
فإنّ كلّ ما تقدّم من إقراره وتسليمه بالعقائد الحقّة لم يكفه حتّى يثمر ذلك في طيّه صراط التوحيد المستقيم ، وهو صراط ثلّة في هذه الأُمّة ومجموعة موصوفة بثلاث صفات : ( صراط الّذين أنعمت عليهم ) أي منعم عليهم بنعمة خاصّة لهم دون سائر الأُمّة وهي نعمة الاصطفاء والاجتباء ، كما في الاستعمال القرآني لاصطفاء الأنبياء والأوصياء.
وفي هذه الأُمّـة قد أنعم الباري تعالى على أهل البيت (عليهم السلام) قربى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتطهير الخاص بهم ، وأنّهم الّذين يمسّـون ويصلون إلى الوجود الغيبي العلوي للقرآن في الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ.
والصفة الثانية : ( غير المغضوب عليهم ) ، وهي العصمة العملية ، فلا يغضبون ربّهم قطّ.
والصفة الثالثة : ( ولا الضالّين ) ، وهي العصمة العلمية ...
فجعل الولاية لهؤلاء ثمرة لإقرار المصلّي بالتوحيد في المواطن