الحمد للّه رب العالمين ، وصلواته على خيرة النبيين محمد وآله الطاهرين وسلم وكرم .
أول فعل مقصود يجب على العاقل، مما لا يخلو منه عنك (1) كمال عقله ، من وجوب النظر المؤدي إلى المعرفة، لأن الحي عند كمال عقله يجد عليه آثارَ نفع ، من كونه حياً سميعاً بصيراً عاقلا مميزاً قادراً متمكناً ، مدركاً للمدركات منتفعاً بها ، ويجوز أن يكون ذلك نعمة لمنعم .
ويعلم أنها إن كانت كذلك ، فهي أعظم نعمة لا نغمار كل نعمة في جنبها ،ويجد في عقله وجوب شكر المنعم ، واستحقاق المدح على فعل الواجب والذم على الإخلال به ، ويجوز أن يستحق من موجده والمنعم عليه مع المدح ثواباَ ومع الذم عقاباً ، ويجد في عقله وجوب التحرز من الضرر اليسير وتحصيل النفع العظيم .
فتجب عليه معرفة من خلقه والنفع له ، ليعلم قصده فيشكره ان كان من عماً ، ولا سبيل إلى معرفته إلا بالنظر في آثار صنعته لوقوعها بحسبها ، ولو كانت لها سبب غيره ،لجاز حصول جميعها لمن لم ينظر وانتفاؤها عن الناظر، فوجب فعله لوجوب ما لا يتم الواجب إلا به .
والواجب من المعرفة شيئان : توحيد وعدل ، وللتوحيد إثبات ونفي .
فالا ثبات : اثبات صانع للعالم _ سبحانه _ قادر ، عالم ، حي ، قديم ، مدرك ،مريد .
--------------------------------
(1) كذا، والظاهر أن الصواب : عند.
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 45 _
والنفي: نفي صفة زائدة على هذه الصفات ، ونفي التشبيه ، ونفي ألادراك عنه_ تعالى _ بشيء من الحواس ، ونفي الحاجة، ونفي قديم ثان شارك في استحقاق هذه الصفات.
والعدل : تنزيه أفعاله عن القبيح ، والحكم لها بالحسن .
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 46 _
فصل
(في الكلام في التوحيد)
طريق العلم باثبات الصانع_ سبحانه _ أن يعلم الناظر: أن هاهنا حوادث يستحيل حدوثها عن غير محدث .
وجهة ذلك : أن يعلم نفسه وغيره من الأجسام ، متحركاً ساكناً ، ثم مجتمعا ًمفترقاً ، أو ضحه ذلك .
فيعلم بتغاير هذه الصفات على الأجسام، أنها أعيان لها ، لأنها لو كانت صفات لذواتها ، لم يجز تغيرها .
ويعلم بتجددها عن عدم ، وبطلانها عن وجود ، أنها محدثة ، لاستحالة الإنتقال عليها، من حيث لم تقم بأنفسها ، والكمون المعقول راجع به إلى الانتقال .
فإذا علم استحالة ذلك على هذه الصفات ، علم أن المتجدد منها إنما يجدد عنعدم ، وهذه حقيقة المحدث والمنتفي ، وأن ما انتفى عن الوجود والعدم يستحيل على القديم لوجوب وجوده ، وما ليس بقديم محدث .
فإذا علم حدوث هذه المعاني المغايرة للجسم ، وعلم أنه لابد في الوجود منمكان يختصه مجأوراً لغيره أو مبايناً ، وقتا واحداً أو وقتين ، لابثا فيه أو منتقلاً عنه _ وقد تقدم له العلم : انه إنما كان كذلك لمعان غيره محدثة علم أنه محدث ، لأنه لوكان قديماً لوجب أن يكون سابقا للحوادث بما لا نهاية له .
فإذا علم أنه لا ينفك من الحوادث ، علم كونه محدثا ، لعلمه ضرورة بحدوث ما لم يسبق المحدث ، ولأنه إذا فكرفي نفسه _ وغيرها _ فوجدها كانت نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظماً ، ثم جنيناً ، ثم حيا ، ثم طفلاً ، ثم يافعا ، ثم صبيا ، ثم غلاما، ثم بالغاً ، ثم شاباً قوياً ، ثم شيخاً ضعيفاً ، ثم ميتاَ .
وأنه لم يكن كذلك إلا بتجدد معان فيه : حرارات ، وبرودات ، ورطوبات ، ويبوسات ، وطعوم ، وألوان ، وأراييح مخصوصة ، وقدر، وعلوم ، وحياة .
وعلم بطلان كل صفة من هذه الاغيار بعد وجود، وتجددها عن عدم ، والجواهر التي تركب منها الجسم باقية ، علم أنها صفات مغايرة لها وأنها محدثه ، لاستحالة الكون
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 47 _
والانتقال عليها بما قدمناه .
وإذا علم حدوث جواهره _ وغيره من الجواهر_ بالاعتبار الأول ، وصفاته بهذه وصفات غيره بالاعتبار الثاني ، ولأنها لا تنفك من المحل المحدث .
وعلم أن في الشاهد حوادث _ كالبناء والكتابة_ وأن لها كاتباً وبانياً ، هو من وقعت منه بحسب غيرها ، وانما ذلك مختص بما يجوز حصوله وانتفاؤه ، فلا يحصل إلا بمقتض .
فأما ما وجب فمستغن بوجوبه عن مؤثر منفصل عن الذات ، كتحيز الجوهر ،وحكم السواد .
ولا يجوز خروجه تعالى عن هذه الصفات ، لوجوب الوجود له تعالى في حق كونه قديماً لنفسه ، يجب له وجوده تعالى في كل حال ، وكونها صفات نفسه يجب ثبوته اللموصوف ويستحيل خروجه عنها كل ما وجد، لكون المقتضي ثانيا(1) وهو النفس ،واستحالة حصول المقتضي وانتفاء مقتضاه .
وبعلمه سبحانه مدركاً إذا وجدت المدركات ، لكونه تعالى يستحيل فيها لآفات والموانع ، بدليل حصول هذا الحكم لكل حي لاآفة به متى وجد المدرك ، وارتفعت الموانع .
وبعلمه سبحانه مريداً لوقوع أفعاله على وجه دون وجه وفي حال دون اخرى ،وذلك مفتقر إلى أمر زائد على كون الحي قادراً عالما ، لكونه صفة للفعل زائدة على مجردالحدوث والاحكام ، وارادته فعله إذ كونه مريداً لنفسه ، أو معنى قديم يقتضي قدم المرادات ، أو كونه عازما ، وكلا الأمرين مستحيل فيه سبحانه .
والمحدَث لا يقدر على فعل الإرادة في غيره ، وقديم ثان نرد(2) برهان نفيه ، فثبت سبحانه مريداً بإرادة يفعلها إلا(3) في محل لاستحالة حلولها فيه أو في غيره ، ولا صفة له سبحانه زائدة على ما علمناه ، لأنه لاحكم لهما ولا برهان بثبوتهما ، واثبات مالا حكم لهولا برهان عليه مفض إلى الجهالات .
وبعلمه سبحانه لايشبه شيئاَ من الأجسام والاعراض ، لقدمه تعالى وحدوث
هذه الأجناس ، لتعذر هذه الأجناس على غيره .
وإذا علمه تعالى فكذلك علم استحالة ادراكه بشيء من الحواس ، لأن الادراك المعقول مختص بالمحدثات .
وعلم كذلك استحالة الاختصاص بالجهات والنقل فيها والمجأوزة والحلول وايجاب الاحكام والاحوال عليه سبحانه ، لكون ذلك من صفات الأجسام والأعراض المباينة له تعالى .
وبعلمه (1) عنها يستحيل عليه الحاجة لاختصاصها باجتلاب النفع ودفع الضرر واختصاص النفع والضر بمن يصح أن يألم ويكد(2)، واختصاص اللذة والألم بذي شهوة ونفار ، وكونهما معنيين يفتقران إلى فعل ، وذلك لايجوز عليه لحدوث المحل وقدومه (3) سبحانه ، ولخلو الفعل من دليل على اثباته مسهيا(4) أو نافراً .
وإذا علم تخصصه تعالى بهذه الصفات من سائر الموجودات ، علمه(5) تعالى واحدا ، لانهما لوكانا اثنين لوجب اشتراكهما في جميع الصفات الواجبة والجائزة ، وذلك يوجب كون مقدورهما ومرادهما واحداً ، مع حصول العلم الضروري بصحة إرادة أحد المتحيزين ما يكره الاخر أو لايريده ولايكرهه ، وقيام البرهان على استحالة تعلق مقدور واحد بقادرين ، وتقديرقديم ثان يقتضي نقض هذا المعلوم .
فثبت أنه تعالى واحدا لا ثاني له ، ولانه لا دليل من جهة العقل على إثبات ثان ، وقد ورد السمع المقطوع بإضافته إليه سبحانه بنفي قديم ثان ، فوجب له القطع على كونه واحد .
--------------------------------
(1) كذا، ولعل الصواب : وبغناه .
(2) كذا، والظاهر أن الصواب : ويلذ .
(3) كذا، والظاهر أن الصواب : وقدمه .
(4) كذا، والظاهر أن الصواب : مشتهياً .
(5) كذا ، والظاهر أن الصواب : علم .
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 49 _
فصل
(في مسائل العدل)
ثبوت ما بيناه من كونه تعالى عالماً لايصح أن يجهل شيئا ً،غنياً لا يصح أن يحتاج إلى شيء ، يخقتضي كونه سبحانه عادلاً لايخل بواجب في حكمته سبحانه ولا يفعل قبيحاً ، لقبح ذلك وتعذر وقوع القبيح من العالم به وبالغني (1)عنه ، وذلك فرع لكونه قادراًعلى القبيح .
وكونه تعالى قادرا لنفسه ، يقتضي كونه قادرا على الحسن ، يقتضي كونه قادراعلى القييح ، اذ كان الحسن من جنس القبيح ، وذلك مانع من كونه مريدا للقبيح ، لأناقد بينا أنه لا يكون مريداً إلا بإرادة يفعلها، وإرادة القبيح قبيحة، لأن كل من علممريداً للقبيح علم قبح إرادته واستحقاقه الذم ، ومقتض لكونه مريدا لما فعله_ تعالى _ وكلَّفه ، لاستحالة فعله مالا غرض فيه ، وتكليفه مالا يريده ، وكارهاَللقبيح لكونه غير مريد له (وفساد حلوما كلفه)(2) ، واحسانه من الارادة والكرامة، لأن ذلك يلحقه بالمباح ، وموجب لكون المكلف قادراً على ما كلفه _ فعلاً وتركاً _ من متماثل الأجناس ومختلفها ومضادها قبل وقوع ذلك ، ومزيح لعلته بالتمكين من ذلك والعلم به واللطف فيه ، ومقتض لحسن أفعاله وتكاليفه ، لأن خلاف ذلك ينقض كونه عادلاً وقد أثبتناه .
ولا يعلم كون كل مكلم (3) قادراً لصحة الفعل منه ، ومتعلقا بالمتماثل والمختلف والمتضاد ، لصحة وقوع ذلك من كل قادر .
وفاعلاً لوجوب وقوع التأثيرات المتعلقة به من الكتابة والبناء وغيرهما بحسبأحواله ، ولتوجيه المدح إليه على حسنها والذم على قبحها، وثبوت القادر على الفعل قبل وقوعه ، لثبوت حاجة المقدور في حال عدمه إلى حال القادر، واستغنائه في حال وجوده عنها كحال بقائه ، ومتمكناً بالايات (4) من جميع ما يفتقر إليها ، وبكال العقل منالعلم بذوات الأشياء واحكامها ، وبالنظر من العلوم المكتسبة ، بدليل حصول الأول
--------------------------------
(1) كذا، والظاهر أن الصواب : والغني .
(2) كذا في الأصل .
(3) كذا، ولعل الصواب : مكلف .
(4) كذا ، ولعل الصواب : بالآلات .
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 50 _
لكل عاقل ، والثاني لكل ناظر، ووجوب اصطلاح المريد من غيره ما يعلم أويظن كونه مؤثراً في اختياره ، ولوجوب تمكينه .
وعلمنا بأنّه تعالى لا يخل بواجب في حكمته ، وظهور الغرض الحكمي في أكثرهاأوجده سبحانه على جهة التفضل ، وثبوت ذلك على الجملة فيما لايظهر لنا تفصيل المراد به كأفعال سائر الحكماء .
وحسن التكليف لكونه تعريضا لما لايوصل إليه إلا به من الثواب .
وكون التعريض للشيء في حكم ايصاله من حسن وقبح ، لأنه لاحسبة له بحسن التكليف غيره ، وعلمه سبحانه بكفر المكلف أو فسقه لا يقتضي قبح تكليفه ، لكونه تعالى مزيحاً لعلته ومحسنا إليه كإحسانه إلى من علم من حاله انه يؤمن ، اُتي من قبل نفسه فالتبعة عليه دون مكلفه سبحانه .
وحسن جميع ما فعله تعالى من الالام أو فعل بأمره أو إباحته ، لما فيه من الاعتبار المخرج له من العيب ، والعوض الزائد المخرج له عن قبيل الظلم والاساءة ، إلى حيز العدل والاحسان .
ووجوب الانتصاف للمظلوم من الظالم ، لوقوع الظلم عن تمكينه تعالى، وانكان كارها له تعالى .
ووجوب الرئاسة، لكون المكلف عندها أقرب من الصلاح ، وأبعد من الفساد .
ووجوب ماله هذه الصفة لكونه لطفاً، ووقوف هذا اللطف على رئيس لا رئيسله ، لفساد القول بوجود ما لا نهاية له من الرؤساء، ومنع الواجب في حكمته تعالى .
ولا يكون كذلك إلاّ بكونه معصوما، كون الرئيس أفضل الرعية وأعلمه الكونه إماما لها في ذلك ، وقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هوأفضل منه فيه .
ووجوب نصبه بالمعجزات والنص المشير،(1) إليه ، لوجوب كونه على صفات لا سبيل إليها إلاّ ببيان علام الغيوب سبحانه .
وهذه الرئاسة قد تكون نبوة، وقد تكون إمامة ليست بنبوة .
فالنبي هو المؤدي عن اللّه سبحانه بغير واسطة من البشر، والغرض في تعينه بيان
--------------------------------
(1)كذا، والظاهر أن الصواب : المشير.
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 51 _
المصالح من المفاسد.
والدلالة على حسن البعثة لذلك قيام البرهان على وجوب بيان المصالح والمفاسد للمكلّف في حق المكلّف ، فلا بد متى علم سبحانه ماله هذه الصفة من بعثه مبيناً له ، ولا بد من الموت (1) المبعوث معصوماً فيما يرد به من حيث كان الغرض في تعينه ليعلم المكلف المصالح والمفاسد من جهته ، فلو جاز عليه الخطأ فيما يؤديه لارتفعت الثقة بادائه ، وقبح العمل بأوامره واجتناب نواهيه .
ولابد من كونه معصوماً من القبائح ، لوجوب تعظيمه على الإطلاق وقبح ذمه ،والحكم بكفر المستخف خيط به مع وجوب ذم فاعل القبيح .
ولا يعلم صدقه إلا بالعجز ، ويفتقر إلى شروط ثلاثة :
أولها : أن يكون خارقاً للعادة، لأنه إن كان معتاداً_ وإن تعذر جنسه _كخلق الولد عند الوطء ، وطلوع الشمس من المشرق ، والمطرفي زمان مخصوص ، لم يقفعلى مدع من مدع .
وطريق العلم بكونه خارقاً للعادة، اعتبار حكمها وما يقع فيها ويميزه من ذلك على وجه لا لبس فيه ، أو بحصول تحد وتوفر دواعي المتحدي وخلوصا(2) وتعذر معارضته .
وثانيها: أن يكون من فعله تعالى، لأن من عداه سبحانه يصح منه ايثار القبيح فلا يؤمن منه تصديق الكذاب ، وطريق العلم بكونه من فعله تعالى ، أن يكون متعددالجنس كالجواهر والحياة وغيرهما من الأجناس الخارجة من مقدور المحدثين ، أو يقع بعض الاجناس المختصة بالعباد على وجه لايمكن إضافته إلا إليه سبحانه .
ثالثها : أن يكون مطابقاً للدعوى، لأنه إن كان منفصلاً عنها لم يكن مدع أولى به من مدع ، وطريق ذلك المشاهدة أو خبرالصادق .
فمتى تكاملت هذه الشروط ثبت كونه معجزا ، إذ (لاصدق من)(3) اقترن ظهوره بدعواه لأنه جار مجرى قوله تعالى : صدق هذا عليَّ فيما يؤديه عني ، وهو تعالى لا يصدق الكذابين .
--------------------------------
(1) كذا ، والظاهر أن الصواب : كون .
(2) كذا، ولعل الصواب : وخلوصه .
(3) كذا، ولعل الصواب : لا أصدَقَ ممّن .
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 52 _
فإذا علم صدقه بالمعجز، وجب اتباعه فيما يدعوإليه ، والقطع على كونه مصلحة ،وينهى (1) عنه والقطع بكونه مفسدة .
ولا طريق إلى نبوة أحد من الانبياء عليهم السلام الان ، إلا من جهة نبينا ( صلوات اللّه عليه وآله وسلم ) ، لانسداد طريق التواتر بشيء من معجزاتهم بنقل منعدا المسلمين لفقد العلم باتصال الأزمنة مشتملة على متواترين فيها بشيءٍ من المعجزات ،وتعذر تعين الناقلين لها .
وطريق العلم بنبوته صلى اللّه عليه واله القران وما عداه من الايات ، ووجه الاستدلال به ، أنه تحداهم به على وجه لم يبق لهم صارف عن معارضته ، فتعذرت على وجه لايمكن اسناده إلى غير عجزهم ، اما لأنه في نفسه معجز ، أو لأن اللّه سبحانه صرفهم عن معارضته ، اذ كل واحد من الأمرين دال على صدقه .
وقد تضمن القران ذكر أنبياء على جهة التفصيل والجملة، فيجب لذلك ألتدين بنبوتهم ، وكونهم على الصفات التي يجب كون النبي عليها .
وان رسول اللّه صلوات اللّه عليه أفضلهم وخاتمهم والناسخ لشرائعهم ،بشريعة يجب العلم والعمل بها إلى يوم القيامة .
والامام هو الرئيس المتقدم المقتدى بقوله وفعله والغرض في نصبه فيه من اللطف للرعية في تكاليفهم العقلية، ويجوزأن يكون نائبا عن نبي أو إمام في تبليغ شريعة .
ومتى كان كذلك فلابد من كونه عالما بجميعها، لقبح تكليفه الاداء وتكليف الرجوع إليه ، مع فقد العلم بما يؤديه ويرجع إليه فيه .
ويجب أن يكون معصوما في ادائه ، لكونه قدوة ، ولتسكن النفوس إليه، لتسلم بعظمة الوأجب خلوصه من الإستخفاف .
ويجب أن يكون عابدا زاهداً لكونه قدوة فيهما ، وإن كان مكلفاً [ب ](2) جهادأوجب كونه أشجع الرعية لكونه فئة لهم .
ويجوز من طريق العقل أن يبعث اللّه سبحانه إلى كل واحد من المكلفين نبياًوينصب له رئيساً ويكون ذلك في الأزمنة، وإنما ارتفع هذا الجائز في شريعتنا ، بحصول
العلم من دين نبينا صلى اللّه عليه واله : أن لا نيي بعده ، ولا إمام في الزمان الا واحد .
ووضح البرهان على تخصيص الإمامة بعده بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ،والحسن ، والحسين ، علي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي ،وعلي بن محمد، والحسن بن علي ، والحجة بن الحسن (صلوات اللّه عليهم ).
لا إمامة لسواهم ، بدليل وجوب العصمة للأمام فيما يؤديه ومن (1) سائر الصالح (2)، وكونه أعلم الخلق وأعظمهم وأعدلهم وأزهدهم وأشجعهم ، وتعدى (3)من عاداهم من منتحلي الإمامة من تكامل هذه الصفات دعوى ، وتخصصهم (عليهم السلام) وشيعتهم بدعواها لهم ، في ثبوت النص من الكتاب والسنة المعلومة على إمامتهم ، وتعريهما [عن] (4) ذلك فيمن عداهم حسب ماذكرناه في غير موضع ، وذلك مقتض لضلال المتقدم عليهم ، وكفر الشاك في إمامة واحد منهم .
وغيبة الحجة عليه السلام ليست بقادحة في إمامته ، لثبوتها بالبراهين التيلا شبهة فيها على متأمل ، وامان المكلف من خطأ به في ظهور فاستتارو غيرهما لعصمته .
ويلزم العلم بجملة الشريعة فعلاً وتركاً لكون ذلك جملة الايمان ، والعلم بتفصيل ما تعين فرضه منها وايقاعه للوجه الذي شرع على جهة القربة، لكون ذلك شرطاً في صحته ، وبراءة الذمة منه ، واستحقاق الثواب عليه .
وهي على ضروب أربعة: فرائض ، ونوافل ، ومحرمات ، وأحكام .
فجهة وجوب الفرائض كون فعلها لطفاً في فعل الواجب العقلي . وترك القبيح ،وقبح تركها لأنه ترك الواجب .
وجهة الترغيب في السنن ، كونها لطفا في المندوب العقلي ولم يقبح تركها، وكما لا يقبح ترك ماهي لطف فيه .
وجهه قبح المحرمات ، كونها مفسدة في ترك الواجب وفعل القبيح ، ووجب تركها لأنه ترك القبيح .
--------------------------------
(1) كذا، والظاهر أن الصواب : من .
(2) كذا، والظاهر أن الصواب : المصالح .
(3) كذا، والظاهر أن الصواب : وتعرّي .
(4) أثبتناه ليستقيم السياق.
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 54 _
وجهة الأحكام ، ليعلم مكلفها الوجه الذي عليه يصح التصرف مما لايصبح .
فوضح ذلك علمنا ضرورة من حال فاعل العبادات الشرعية ومجتنب المحرمات كونه أقرب لنا ، للأنصاف والصدق وشكرالنعمة وردّ الوديعة وسائر الواجبات ، والبعدمن الظلم والكذب وسائر القبائح .
ومن حال فاعل المحرمات الشرعيات والمخل بالعبادات ، كونه أقرب [من ](1)القبيح العقلي وابعد من الواجب .
ولا شبهة أن من بلي بالتجارة فلم يعلم أحكام البيوع ، لم يكن على يقين منصحة التملك .
وكذلك من بلي بالإرث مع جهله بأحكام المواريث ، لايكون على ثقة مما يأخذ ويترك .
وكذلك يجري الحال في سائر الأحكام ، وقد استوفينا الكلام في هذا القدح في مقدمة كتاب (2) (العمدة) و(التلخيص ) في الفروع ، وفي كتابي (الكافي في التكليف) وفيما ذكرناه هاهنا بلغة . .
ولا طريق إلى اثبات الأحكام الشرعية والعمل بها إلا العلم دون الظن ، لكون التعبد بالشرائع مبنياً على المصالح التي لا يوصل إليها بالظن ، ولا سبيل إلى العمل بجملتهاإلا من جهة الأئمة المنصوبين لحفظها ، المعصومين في القيام بها ، المأمونين في ادائه الحصول العلم بذلك من دينهم لكل مخالط ، وارتفاع الخوف من كذبهم لثبوت عصمتهم (عليهم السلام) .
ولابد في هذه التكليف من داع وصارف ، وذلك مختص بالمستحق عليه من المدح والثواب والذم والعقاب والشكر .
فالمدح :هو القول المنبىء عن عظم حال الممدوح ، وهو مستحق بفعل الواجب والمندوب واجتناب القبيح .
والثواب : هوالنفع المستحق الواقع على جهة التعظيم والتبجيل ، وهو مستحق من الوجوه الثلاثة بشرط المشقة .
والذم : هوالقول المنبئ عن إيضاح حال المذموم ، وهو مستحق بفعل القبيح والإخلال بالواجب .
والعقاب : هوالضرب المستحق من الوجهين بشرط زائد .
والشكر: هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم ، وهو مستحق بالإحسان خاصة .
والوجه في حسن التكليف ، كونه تعريضاً للثواب الذي من حقه ألا يحسن الابتداء به من دون العلم باستحقاق العقاب ودوامه .
وانما يعلم ان الثواب دائم والعقاب مستحق ودائم بالكفر ، ومنقطع بما دونه ، من جهة السمع .
والمستحق من الثواب ثابت لا يزيله شيء ، لأنه حق واجب في حكمته سبحانه ،لا يجوز فيها منعه ، (والا سقوط بندم او زائد)(1) عقائد ، لاستحالة ذلك ، لعدم التنافي بين الثواب وبينهما لعدم الجميع ، وإحالة التنافي بين المعدومات .
وعقاب الفسق يجوز اسقاطه تفضلاً بعفو مبتدأ وعند الشفاعة لجوازه ، وعندالتوبة لأنه حق له تعالى إليه قبضه واستيفاؤه ، واسقاطه إحسان إلى المعفو عنه .
وقد ورد الشرع مؤكداً لاحكام العقول ، فمن ذلك تمدحه سبحانه في غير موضع من كتابه بالعفو والغفران ، المختصين باسقاط المستحق في اللغة والشرع .
ولا وجه لهذا التمدح إلا بوجهه (2) إلى فساق أهل الصلاة، بخروج (3) المؤمنين الذين لا ذنب لهم والكفار عنه باتفاق ، اذ لا ذنب لأولئك يغفر ، والعفو عن هؤلاء غير جائز .
ولأن ثواب المطيع دائم ، فمنع من دوام عقاب ما ليس بكفر ، لإجماع الاُمة على أنه لا يجتمع ثواب دائم وعقاب دائم لمكلف ، وفساد التخالط بين المستحقين مما (4)بيناه .
ولا أحد قال بذلك ، إلا جوز سقوط عقاب العاصي بالعفو ، أوالشفاعة المجمع
--------------------------------
(1) كذا في الأصل .
(2) كذا، ولعل الصواب : توجهه .
(3) كذا، ولعل الصواب : لخروج .
(4) كذا ، والظا هر أن الصواب : بما .
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 56 _
عليها، ويخصصها بإسقاط العقاب ، ولا يقدح في ذلك خلاف المعتزلة، لحدوثه بعد انعقاد الاجماع بخلافه .
وآيات الوعيد كلها وآيات الوعيد(1) مشترطة بالعفو ومخصصة بآيات العفو وعموم آيات الوعد، ولثبوت ثواب المطيع وفساد التخالط ، وكون ذلك موجبا لتخصيصها بالكفار ان كان وعيدها دواماً أو كون عقابها منقطعا إن كان عاماً ، منحيث كان القول بعمومها للعصاة ودوام عقابها ينافي ماسلف من الأدلة .
والمؤمن : هو المصدق بجملة المعارف عن برهانها ، حسب ما خاطب به من لسان العرب ، المعلوم كون الايمان _ فيه _ تصديقا ، والكفر اسم لمن جحد المعارف أو شكفيها أو اعتقدها عن تقليد أو نظر لغير وجهه .
والفسق إسم لمن فعل قبيحا ، أو أخل بواجب من جهة العقل أو السمع ، لكونه خارجاً بذلك عن طاعة مكلفه سبحانه .
والفاسق في اللغة : هوالخارج ، [و](2) في عرف الشريعة هوالخارج عن طاعته سبحانه .
ومن جمع بين إيمان وفسق ، مؤمن على الاطلاق فاسق بما اتاه من القبيح ، لثبوت كل واحد منهما ، ومن ثبت إيمانه لا يجوز أن يكفر( لدوام ثواب الإيمان وعقاب الكفر وفساد اجتماعهما لمكلف واحد، وثبوت المستحق منهما وعدم سقوطه بندم أوتحابط .
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ )(3) مختص بمن أظهر الايمان أو اعتقده لغير وجهه ، دون من ثبت إيمانه ، كقوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ )(4) يعني مظاهرة (5) للإيمان باتفاق ، ومدح المقطوع على إيمانه مطلق مقطوع بالثواب ، والمظهر مشترط بكون الباطن مطابقاً للظاهر واقعا موقعه .
وذم الكافر ولعنه مطلق ، مقطوع له بالعقاب الدائم .
وذم الفاسق مشترط الا بعفا (1) عن مستحقه ابتداءاً أو عند شفاعة ، وإذا ظهر كفر ممن كان على الإيمان ، وجب الحكم على ما مضى منه على المظاهرة (به النفاق) (2)، أو كونه حاصلاً عن تقليد، أو عن نظر لغير وجهه ، لما بيناه من الأدلةالموجبة لذلك .
ولابد من انقطاع التكليف ، والا انتقض الغرض المجرى به إليه من التعريض للثواب ، ولا يعلم بالعقل كيفية انقطاعه وحال (3) أيضاً أو جنسه وكيفية فعله ، وإنمايعلم ذلك بالسمع .
وقد حصل العلم من دينه صلى اللّه عليه ضرورةً، ونطق القران بأن اللّه تعالى آخر بعد فناء كل شيء ، كما كان أولاً قبل وجود شيء ، حسب ما أخبر سبحانه من قوله :(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) (4) ينشؤهم بعد ذلكُ ويحشرهم ليوم لاريب فيه ، مستحق الثواب خالصاً والعقاب الدائم ، ليوصل كلاً منهما إلى مستحقه على الوجه الذي نص عليه تعالى ، ومن اجتمع له الاستحقاق ان فإن (5) يستوفي منه سبحانه ما يستحقه من العقاب ، أو يعفو عنه ابتداءاً، أو عند شفاعة ، ثم يوصله إلى ثواب إيمانه وطاعاته الدائم والمولم (6) به تعالى أو بغيره ، ليوصله إلى ما يستحقه من العوض عليه تعالى أوعلى غيره ، ثم يدخله الجنة إنكان من أهلها أو النار، أو يبقيه ، أو يحرمه إن كان ممن لا يستحقها من البهائم والأطفال والمجانين ومن لا يستحق العوض ، ليتفضل عليه .
وهذا _ اجمع _ جائز من طريق العقل لتعلقه بمبتدئهم تعالى ، والنشأة الثانية أهون من الأولى، وهي واجبة لما بيناه من وجوب ايصال كل مستحق إلى مستحقه من ثواب أو عقاب أو عوض .
ولا تكليف على أهل الآخرة باجماع ، ولأن العلم بحضور المستحق من الثواب والعقاب وفعله عقيب الطاعة والمعصية ملج ، والالجاء ينافي التكليف ، وأهل الآخرة
--------------------------------
(1) كذا، والظاهر ان الصواب : باعفاء.
(2) كذا، والظاهر أن الصواب : بالنفاق .
(3) كذا، والظاهر أن الصواب : وحاله.
(4) الحد يد 57 : 3 .
(5) كذا، والظاهر أن الصواب : فإنه .
(6) كذا .
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 58 _
عالمون باللّه تعالى ضرورةً ، ليعلم المثاب والمعاقب والمعوض وصوله إلى ما يستحقه على وجهه ، ويعلم المتفضل عليه كون ذلك النفع نعمة له تعالى .
وقلنا أن هذه المعرفة ضرورية ، لأنا قد بينا سقوط تكليف أهل الآخرة، فلم يبق مع وجوب كونهم عارفين إلا كون المعرفة ضرورية .
هذه جمل يقتضي كون العارف بها موقناً مستحقا للثواب الدائم وايصاله ،إليه ،ومرجوله العفو عما عداهما من الجوائر (1)، ويوجب كفر من جهلها ، أو شيئاً منها ،أو شك فيها ، أو اعتقدها عن غير علم ، أو شيئاً منها ، أو لغير وجهها ، قد قربناها بغايةوسعنا ، من غير اخلال بشيء يؤثر جهله في ثبوت الايمان لمحصلها ، وإلى اللّه سبحانه الرغبة في توفير حظنا _ ومن تأملها أو عمل بها _ من ثوابه وجزيل عفوه ، بجوده وكرمه انه قريب مجيب ، تم الكتاب .
--------------------------------
(1) كذا ، والظاهر ان الصواب : الجرائر.
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 59 _
ومن خطبة له في التوحيد (1)
ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقتَهُ أصاب من مثّله ، ولا إياه عنى من شبّهه ، ولاصمده من أشار إليه وتوهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول ،فاعل لا باضطراب آلةٍ ، مقدر لابجول فكرة ، غنيْ لاباستفادة ، لم لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء ازله ، بتشعيره المشاعر عرف ألاّ مشعر له ، وبمضادته بين الاُمور عرف ألا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف الاّقرين له ، ضا د النور بالظلمة ، والوضوح بالبهيمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصرد ، مؤلفبين متعادياتها ، مقارن (2) بين متبايناتها ، مقرب بين متباعداتها ، مفرق بين متدانياتها ، لايُشمل (3) بحد ، ولايحسب بعد ، وأنما تحد الادوات أنفسها ، وتشير الآلات (4)إلى نظائرها ، منعتها (منذ) القدمية ، وحمتها (قد) الأزلية ، وجنبتها (لولا) التكملة، [بها ](5) تجلى صانعها للعقول ، و (6) بها امتنع عن نظرالعيون ، لا يجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هوأجراه ؟ ويعود فيه ما هو ابداه ؟ ويحدث فيه ما هو أحدثه ؟ إذاً لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه ، ولامتنع من إلأزل معناه ، لو كان له وراء لوجد له امام ، ولا لتمس التمام اذ لزمه النقصان ، وإذاًلقامت آية المصنوع فيه ، ولتحول دليلاً بعد أن كان مدلولاً [عليه ](7) ، وخرج بسلطان إلامتناع من أن يؤثر [ فيه ما يؤثر ](8) في غيره ، الذي لا يحول (9) ولا يزول ، ولا يجوز عليه الافوال ، لم يلد فيكون مولوداً ، ولم يولد فيكون (10) محدوداً ، جل عن اتخاذ الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء.
--------------------------------
(1) رواها الشريف الرضي في نهح البلاغة 2 : 142 | 181، وقال : وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم مالا تجمعه خطبة غيرها .
(2) في الأصل : مقارب ، وما أثبتناه من النهج .
(3) في الأصل : لايشتمل ، وما أثبتناه من النهج.
(4) في النهج: الالة.
(5) أثبتناه من النهج .
(6) في الأصل : في ، وما أثبتناه من النهج.
(7 و 8) أثبتناه من النهج .
(9) في الأصل : لايحرك ، وما أثبتناه من النهج.
(10) في النهج : فيصير.
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 60 _
لا تناله الأوهام فتقدره ، ولا تتوهمه الفطن فتصوره ، ولا تدركه الحواس فتحسه ،ولا تلمسه الأيدي فتمسه ، لا يتغير بحال ، ولا يتبدل بالأحوال (1) ، لاتبليه الليالي والأيام ، ولا يغيره الضياء والظلام ، ولا يوصف بشيء من الاجزاء، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيرية والابعاض .
ولا يقال له حد(2) ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية، ولا ان الأشياء تحويه فتقله أو تهويه ، أو ان شيئاً يحمله فيميله أو يعدله ، ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج ، يخبر بلا لسان ولهوات ، ويسمع بلا خروق وأدوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفظ ،ويريد ولا يضمر ، يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة .
يقول لما(3) أراد كونه كن فيكون ، لا بصوت يقرع ، ولا نداء(4) يسمع ، وإنما كلامه (5) فعل منه أنشأه ومثله ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديما لكان إلهاً ثانيأ لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجرى عليه الصفات المحدثات ، ولا يكون بينها وبينه فصل [ولا له عليها فضل ، فيستوي الصانع والمصنوع ، ويتكافأ المبتدىء والبديع ](6) .
خلق الخلائق على غير(7) مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه .
وأنشأ الارض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصنها من الأود والإعوجاج ،
ومنعها من التهافت والانفراج ، أرسى أوتادها ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ، وخد أوديتها ، فلم يهن ما بناه ، ولا ضعف ما قواه ، هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهوالباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالي [على](8) كل شيء منها بجلاله وعزته ،لا يعجزه شيء منها يطلبه (9)،
--------------------------------
(1) في الأصل ،: من الأحوال ، وما أثبتناه من النهج .
(2) في الأصل : عد، وما أثبتناه من النهج.
(3) في النهج : لمن .
(4) في النهج : ولا بنداء.
(5) في النهج زيادة: سبحانه .
(6) أثبتناه من النهج .
(7) في الأصل : خير، وما أثبتناه من النهج.
(8) أثبتناه من النهج .
(9) في النهج : طلبه .
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 61 _
ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السريع منها فيسبقه ، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه ، خضعت الأشياء له فذلت (1) مستكينة لعظمته ،
لاتستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضره ، ولا كفؤله فيكافئه ، ولا نظير له (2) فيساويه .
هو المفني لها بعد وجودها ، حتى يصير موجودها كمفقودها ، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها، بأعجب من إنشائها واختراعها ، وكيف ولو اجتمع جميع حيوانها منطيرها وبهائمها، وما كان من مراحها(3) وسائمها ، وأصناف أسناخها وأجناسها ،ومتبلدة اممهاو اكياسها ، على احداث بعوضة ماقدرت على احداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها ، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بأنها مقهورة ، مقرة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضعفعن إفنائها .
وأنه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه ، كما كان قبل ابتدائها ،كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقت ولا مكان ، ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء الا الواحد القهار، الذي إليه مصير جميع الاُمور .
بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها ، لم يتكاءده (4) صنع شيء منها [ إذ](5) صنعه ، ولم يؤده منها خلقما برأه وخلقه ، ولم يكونها لتشديد سلطان ، ولا لخوف من زوال ونقصان ، ولا للاستعانة بها على ند مكاثر ، ولا للاحتراز بها من ضد مثاور ، ولا للازدياد بها في ملكه ، ولا لمكاثرة شريك في شركه ، ولا لوحشة كانت منه (6) فأراد أن يستأنس إليها .
ثم هو يفنيها بعد تكوينها ، لا لسأم دخل عليه في تصريفها وتدبيرها، ولا لراحة واصلة إليه ، ولا لثقل شيء منهاعليه ، لا يمله طول بقائها فيدعوه إلى سرعة افنائها ، لكنه
--------------------------------
(1) في النهج : وذلت .
(2) ليس في النهج .
(3) في الأصل : مراحمها، وما أثبتناه من النهج .
(4) في وصفه تعالى (لابتكاءده صنع شيء كان ) أي لايشق عليه (مجمع البحرين 3 :135).
(5) أثبتناه من النهج .
(6) في الأصل : منها، وما أثبتناه من النهج.
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 62 _
سبحانه دبرها بلطفه ، وأمسكها بأمره ، وأتقنها بقدرته ، ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها، ولا أستعانة(1) بشيء منها عليها(2)، ولا لا نصراف من حال وحشة إلى حال استئناس ، ولا من حال جهل وعمى إلى [حال](3) علم والتماس ، ولا من فقر وحاجة إلى غنى وكَثرة ، ولا من ذل وضعة إلى عز وقدرة .
--------------------------------
(1) في الأصل : ثم لا لاستعانة، وما أثبتناه من النهج .
(2) في الأصل : عليه ، وما أثبتناه من النهج .
(3) أثبتناه من النهج .
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 63 _
ومن خطبة له في المعنى (1) :
الحمد للّه المتجلي لخلقه بخلقه ، والظاهر لقلوبهم بحجته ، خلق الخلق من غير روية، إذ كانت الرويات لا تليق إلا بذوي الضمائر، وليس بذي ضمير في نفسه ، خرق علمه باطن غيب السترات ، وأحاط بغموض عقائد السريرات.
و أشهد أن لا إله اللّه وحده لا شريك له ، الأول فلا شيء قبله ، [و] (2)الآخر لا نهاية له ، لا تقع القلوب له على، غاية، ولا تعقد القلوب منه على كيفية ، لا تناله التجزئة والتبعيض ، ولا تحيط به الأبصار والقلوب (3)، بطن خفيات الامور، ودلت عليه أعلام الظهور، وامتنع على عين البصير، فلا عين من لم يره تنكره ، ولا قلب من اثبته يبصره ، سبق في العلو فلا شيء أعلى منه ، وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه ، فلا أستعلاؤه باعده عن شيء من خلقه ، ولا قربه ساواهم في المكان به ، لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الذي تشهد له اعلام الوجود على اقرار قلب ذي الجحود، تعالى اللّه عما يقول المشبهون به والجاحدون له علوا كبيراً (4).
--------------------------------
(1) رواها الشريف الرضي في نهج البلاغة 1 : 206 | 104، إلى: عقائد السريرات .
(2) أثبتناه من النهج.
(3) نهج البلاغة 1 : 81 | 146، من : وأشهد أن لا إله إلا اللّه .
(4) نهج ألبلاغة 1 : 94 | 48، من : بطن خفيات الاُمور.
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 64 _
ومن خطبة له في التوحيد عليه السلام :
الحمد للّه الدال على وجوده بخلقه ، وبمحدث خلقه على، أزليته ، وباشتباهم على أن لا شبه له ، لا تشتمله (1) ألمشاعر، ولا تحجبه السواتر، لافتراق الصانع والمصنوع ، والحاد والمحدود، والرب والمربوب .
الأحد لا بتأويل عدد ، والخالق لا بمعنى حركة ونصب ، والسميع لا بأداة ، والبصير لا بتفريق الة، والشاهد لا بمماسة ، والبائن لا بتراخي مسافة ، والظاهر لا برؤية ،والباطن لا بلطافة ، بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه .
من وصفه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل ازله ، ومنقال : (كيف) فقد استوصفه ، ومن قال : (أين) فقد حَيّزه ، عالم إذ لا معلوم ، ورب إذ لا مربوب ، وقادر إذ لا مقدور .
منها: قد طلع طالع، ولمع لامع ، ولاح لائح ، واعتدل مائل ، واستبدل اللّه بقوم قوماً، وبيوم يوماً وانتظرنا الغِيَر انتظارالمجدب المطر، وانما الأئمة قوام اللّه على خلقه ،وعرفاؤه على عباده ، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه .
إن اللّه خصكم بالاسلام واستخلصكم له ، وذلك لأنه اسم سلامة وجماع كرامة ، اصطفى اللّه تعالى منهجه وبين حججه ، من ظاهر علم وباطن حكم ، لا تفنى غرائبه ، ولا تنقضي عجائبه ، فيه مرابيع النعم ومصابيح الظلم ، لا تفتح الخيرات إلا بفاتحهم (2)، ولا تكشف الظلمات إلا بمصابحهم (3)، قد أحمى حماه وأرعى مرعاه ، فيه شفاء المشتفي وكفاية المكتفي (4).
ومن كلام له في المعنى :
قاله لذعلب اليماني ، وقد سأله : هل رأيت ربك ؟ فقال . أفأعبد من (1)لا أرى ؟ !قال : وكيف تراه ، قال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان ، قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين متكلم لا بروية ، مريد لا بهمة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسة ، رحيم لا يوصف بالرقة ، تعنو الوجوه لعظمته ، وتوجل (2) القلوب من مخافته (3).
الذي (4) لم يسبق له حال حالا، فيكون أولا قبل أن يكون اخرا، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطناً كل مسمى بالوحدة غيره قليل ، وكل عزيز غيره ذليل ، وكل قوي غيره ضعيف ، وكل مالك غيره مملوك ، وكل عالم غيره متعلم ، وكل قادر غيره يقدر ويعجز ، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات ويصمه كبيرها ويذهب عنه مابعد منها ، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام ، وكل ظاهر غيره غير باطن ، وكل باطن غيره غير ظاهرى ، لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ،ولا تخوف من عواقب زمان ، ولا استعانة على ند مثاور ، ولا شريك مكاثر(5)، ولا ضد منافر ، ولكن خلائق مربوبون وعباد داخرون ، لم يحلل في الاشياء فيقال : هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال : هو منها بائن ، لم يؤده خلق ما ابتدأ، ولا تدبير ماذرأ ، ولا وقف به عجز عما خلق ، ولا ولجت عليه شبهة فيما قدر وقضى ، بل قضاء متقن ، وعلم محكم ، وأمر مبرم ، المأمول مع النقم ، المرهوب مع النعم (6).
--------------------------------
(1) في النهج : ما.
(2) في النهج: وتجب .
(3) نهج البلاغة 2 : 120 | 174 .
(4) في النهج : الحمد لله الذي.
(5) في النهج : مكابر.
(6) نهج البلاغة 1: 107 | 62 . وفيه من : الذي لم يسبق .
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 66 _
ومن كلام له عليه السلام في التوحيد :
عن مقدام (1) بن شريح بن هانىء ، عن أبيه قال : إن أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين ، أتقول ان
اللّه واحد ؟ قال : فحمل الناس عليه وقالوا: يا أعرابي ، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب !؟ فقال أمير المؤمنين( عليه السلام) : ( دعوه ، فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم) .
[ثم ](2) قال : (يا أعرابي ، إن القول في أن اللّه واحد ، على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان على اللّه تعالى، ووجهان يثبتان فيه .
فأما اللذان لا يجوزان عليه : فقول القائل : واحد، يقصد به باب الاعداد، فهذا ما لا يجوز ، لأن مالا ثاني له لا يدخل في باب الم لاعداد ، أما ترى أنه كفر من قال : ثالث ثلاثة ! وقول القائل : هو واحد ، يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز ، لأنه تشبيه ، جل ربنا عن ذلك وتعالى .
وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه : فقول القائل : هو واحد ، يريد به ليس له في الأشياء شبه ولا مثل ، كذلك اللّه ربنا ، وقول القائل : انه تعالى واحد ، يريد أنه أحد يالمعنى ، يعني أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك اللّه ربنا (عز وجل )(3) .
وروى أن رجلا قال له : يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك ؟ قال : (بفسخ العزم ونقض الهم ، لما ان هممت فحال بيني وبين همي ، وعزمت فخالف القضاء عزمي ، علمت أن المدبر لي غيري) .
قال : فبماذا شكرت نعماءه ؟ قال : نظرت إلى بلاء قد صرفه عني وابلى به غيري ، وإحسان شملني به ، فعلمت أنه قد أباه علي فشكرته) .
قال : فبماذا أحببت لقاءه ؟ قال : (رآيتة قد اختار لي دين ملائكته ورسله ،
--------------------------------
(1) في الأصل : مقداد، وما أثبتناه هو ألصواب ، وهو المقدام بن شريح بن هانىء بن يزيد الحارثي الكوفي ، روى عن أبيه، وعنه اسرائيل .
(تهذيب التهذيب 10 : 287 | 504 ، تقريب التهذيب 2 :272 | 1349 ) .
(2) أثبتناه من التوحيد.
(3) رواه الصدوق في التوحيد 83: 3، والخصال 2 : 1 ، ومعاني الأخبار5 : 2 .
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 67 _
فعلمت أن الذي أكرمني بهذا ليس ينساني فأحبيت لقاءه )(1).
ومن خطبه له عليه السلام في التوحيد:
الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه ، وبحدوث خلقه على وجود ، وباشباههم على أن لا شبه له ، الذي صدق في ميعاده ، وارتفع عن ظلم عباده ، وقام بالقسط في خلقه ، وعدل عليهم في حكمه ، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه .
واحد لا بعدد ، ودائم لا بأمد، وقائم لا بعمد ، تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة، وتشهدله المرائي لا بمحاضرة ، لم تحط به الاوهام ، بلى تجلى لها ، وبها امتنع منها ، وإليها حاكمها ، ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيماً ، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيداً ، بل كبر شأناً وعظم سلطاناً .
و أشهد أن محمداً عبده المصطفى، وأمينه الرضي صلى اللّه عليه [ واله ] وسلم ،أرسله بوجوب الحجج ، وظهور الفلج ، وإيضاح المنهج ، فبلغ الرسالة صادعا بها، وحمل على المحجة دالاً عليها، وأقام اعلام الاهتداء ومنار الضياء، وجعل امراس الاسلام متينة ، وعرى الإيمان وثيقة (2).
وقال عليه السلام:
من عبداللّه تعالى بالوهم ان يكون صورة أو جسماً فقد كفر ، ومن عبد الاسم دون المعنى فقد عبد غير اللّه ، ومن عبدالمعنى دون الإسم فقد دل على غائب ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد إثنين ، ومن عبد المعنى بوقوع الإسم عليه ، يعقد به قلبه ، وينطق به لسانه ، فذلك في ديني حقاً ودين آبائي.
يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه ، أبو محمد الحسن بن أبي الحسن الديلمي ، أعانه اللّه على طاعته ، وتغمده برأفته ورحمته ، وحشره مع أئمته : إن ذات اللّه تعالى معروفة بالعلم ، غير مدركة بالإحاطة ، ولامرئية بالأبصار ، فهي ثابتة في العقول منغير حد ولا إحاطة ولا حلول ، قد حجب سبحانه الخلق أن يعرفوا له كنه ذات ، ودلهم
عليه بآياته ودلالاته ، فالعقول تثبته ، وقلوب المؤمنين مطمئنة به غير شاكة فيه ولا منكرة له .
واني لأعجب ممن يستدل بصفات المخلوق على صفة الخالق ، وكيف يصح الاستدلال بصفات من له مثل ، على صفات من لا مثل له ولا نظير !؟
واللهّ تعالى يصدق هذا القول بقوله تعالى :(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(1)
واعلم أن حقيقة المعرفة عقد الضمير في القلب ، بإخراج ذات اللّه عن كلموهوم ومهجوس ومحسوس ، وطرق الحق واضحة ، وعلاماته لائحة ، وعيون القلوب مفتوحة ، ولكن أعماها غشاوة الهوى، وضعف البصائر، وجماد القرائح ، وترك الطلب ، ولو استشعروا الخوف قوموا به العوج ، وسلكوا الطريق الابلج .
ودواء القلوب وجلاؤها في خمسة أشياء: قراءة القرآن المجيد بالتدبر، وخلاءالبطن ، وقيام الليل ، والتضرع في السحر، ومجالسة الصالحين .
وأعظم مقامات العارفين : القيام بالأوامر، والثقة بالمضمون ، ومراعاة الأسرار بالسلامة ، والتخلي من الدنيا، فإذا حصلت هذه الصفات ، ضاقت على صاحبها الأرض بما رحبت ، كما قال اللّه : (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ )(2) ومن ألزم نفسه آداب الكتاب ، وسنة نبينا محمد صلى اللّه عليه وآله ، وسنن الأئمة من أهل بيته عليهم السلام ، نوراللّه قلبه بنور الايمان ، ومكن له بالبرهان ، وجعل على وجهه وأفعاله شاهد الحق . ولا مقام أشرف من متابعة اللّه الحبيب واحبائه من أنبيائه ، وائمته من أوليائه ، فيأوامرهم ونواهيهم ، ومن ادعى المحبة لهم وهو على خلاف ذلك ، فانما يستهزىء بنفسه و يغمزها .
ومن كلام الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في التوحيد:
رواه عنه محمد بن زيد الطبري ، قال : كنت قائما عند علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) بخراسان ، وحوله جماعة من بني هاشم وغيرهم ، وهو يتكلم في توحيداللّه تعالى ، فقال :اول عبادة الله معرفته ، وأصل معرفته توحيده ، ونظام توحيده نفي التحديد عنه ، لشهادة العقول بأن كل محدود مخلوق ، وشهادة كل مخلوق أن
له خالقاً ليس بمخلوق ، الممتنع من الحدث هوالقديم في الأزل ، ليس اللّه عبد من نعت ذاته ، ولا إيا هو حد من اكتنهه ، ولا حققه من مثَّله ، ولا به صدق من نهّاه ، ولا [صمد](1) صمده من أشار إليه بشيء من الحواس ، ولا إياه عنى من شبّهه ، ولا له عرف من بَعَّضه ، ولا إياه أراد من توهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ،(2) وكل قائم في سواه معلول .
بصنع اللّه يستدل عليه ، وبالعقول تعتقد معرفته سبحانه ، وبالفطرة تثبت حجته ، خلق الخلق بينه وبينهم حجابُ مباينته اياهم ومفارقتهم له ، وابتداؤه لهم دليلهم على أن لا ابتداء له ، لعجز كل مبتدأ منهم عن ابتداء مثله ، فاسماؤه تعالى تعبير ،وأفعاله سبحانه تفهيم ، قد جهل اللّه سبحانه من حده ، وقد تعداه من اشتمله ، وقدأخطأه من اكتنهه (3) .
من قال :(كيف) فقد شبهه ، ومن قال : (أين) فقد حصره ، ومن قال : (فيم) فقد وعاه ، ومن قال : (علام) فقد شبهه ، ومن قال : (متى) فقد وقته (4)، ومن قال :(لم) فقد علله (5)، ومن قال : (فيم ) فقد ضمنه ، ومن قال : (إلام ) فقد نهاه ، ومن قال :(حَتّام ) فقد غياه ، ومن غياه فقد جَزّأه ، ومن جَزَّأه فقد ألحد فيه .
لا يتغير اللّه تعالى بتغاير المخلوق ، ولا يتحدد بتحديد المحدود، واحد لا بتأيل عدد، ظاهر لا بتأويل مباشرة ، متجلِ لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة ، قريب
--------------------------------
(1) أثبتناه من أمالي المفيد.
(2) في الأصل : موضوع ، وما أثبتناه من أمالي المفيد.
(3) في الأصل: اكتنفه ، وما أثبتناه من أمالي المفيد.
(4) في الأصل زيادة مكررة : ومن قال فيم فقد وعاه .
(5) في الأصل زيادة مكررة: ومن قال متى فقد وقته.
أعـَـلامُ الـدِّيـِـن في صفات المؤمنين _ 70 _
لا بمداناة ، لطيف لا بتجسيم ، موجود لا عن عدم ، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بفكر ، مدبر لا بعزيمة ، شاءِ لا بهمة ، مدرك لا بحاسة ، سميع لا بآلة ، بصير لا بأداة ، لا تصحبه الأوقات ، ولا تضمه الأماكن ، ولا تأخذه السِّنات ، ولا تحده الصفات ، ولا تقيده الأدوات .
سبق الأوقات كونُه ، والعدَم وجودُه ، والابتداءَ أزله ، وبمشابهته بين الأشياء عالم أن لا شبه له ، وبمضادّته بين الأضداد علم أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الأمور عرفأن لا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والظل بالحرور ، مؤلف بين متدانياتها(1)، مفرق بين متبايناتها ، بتفريقها دل على مفرقها ، وبتأليفها دل على مؤلفها .
قال سبحانه : (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )(2).
له معنى الربوبية إذ لا مربوب ، وحقيقة الالهية إذ لامألوه ، ومعنى العالم إذ لا معلوم ، ليس منذ خلق استحق معنى الخالق ، ولا من حيث احدث استفاد معنىالمحدث ، لا تنائيه (منذ) ولا تدنيه (قد) ولا تحجبه (لعل) ولا توقته (متى) ولا تشتم له (حين) ولا تقاربه (مع )، كلما في الخلق من اثر غير (3) موجود به ، وكل ما أمكن فيه ممتنع من صانعه ، لاتجري عليه الحركة والسكون ، وكيف يجري عليه ما هو اجراه ! أو يعود فيه ما
هو أبداه !؟ إذاً لتفاوتت دلالته ، وامتنع من الأزل معناه ، ولما كان البارىء ، غير المبرأ (4) ولو وجد له وراء لوجد له أمام ، ولو التمس له التمام لزمه النقصان ، كيف يستحق الأزل من لا يمتنع من الحدث !؟ وكيف ينشىء الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء !؟
لو تعلقت به المعاني لقامت فيه اية المصنوع ، ولتحول من كونه دالاً إلى كونهم دلولاً عليه ، ليس في محال القول حجة، ولا في المسألة عنه جواب ، لا إله إلاّ هو العلي العظيم (5).
--------------------------------
(1) في الأصل : متعاقباتها، وما أثبتناه من أمالي المفيد.
(2) الذاريات 51: 49 .
(3) في الأصل : عين ، وما أثبتناه من أمالي المفيد.
(4) في الأصل : المبري ، وما أثبتناه من أمالي الطوسي .
(5) رواه المفيد في أماليه : 253 | 3 ، 4 والطوسي في أماليه 1 : 22.